مرة أخرى.. الدستور الذي تريده مصر

TT

نشر آخر مقال لي في «الشرق الأوسط» يوم 28 يونيو (حزيران) الماضي، وسافرت بعد ذلك في رحلة علاج عدت بعدها لأجد زمهرير الصيف ورمضان على الأبواب. ومع ذلك فإنني لم أجد بدا من معاودة التفكير في القضايا العامة، وفي مقدمتها قضية الدستور التي يتصدى لها كثيرون؛ بعضهم عن علم وآخرون يهرفون بما لا يعلمون. لقد أصبح نصف من يقرأون ويكتبون من المصريين فقهاء في القانون الدستوري!

الاهتمام بالسياسة العامة شيء حسن، ولكن التصدي لما لا يعرفه الإنسان والفتوى فيه بغير علم نقيصة علمية وأخلاقية.

على أي حال نعود إلى سؤالنا الأساسي: ما سمات الدستور الذي تريده مصر في هذه المرحلة من تاريخها السياسي؟ وقبل ذلك كيف يوضع الدستور؟

في الماضي كانت الدساتير توجد عن طريق المنحة من الحاكم الذي يتنازل عن جزء من سلطاته للشعب، وفي مرحلة تالية كانت الدساتير توضع عن طريق ما يشبه التعاقد بين الحاكم والمحكومين، ولكن هذه الصور اختفت الآن، وأصبح وضع الدساتير يتم عن طريق الشعب نفسه بواسطة ممثلين عنه في صورة جمعية تأسيسية منتخبة.

كيف تضع الجمعية التأسيسية دستور بلد من البلاد؟ وكيف نضع دستورا لمصر على نحو محدد؟

ثورة المعلومات جعلت كل شيء متاحا لمن يعرفون كيفية استدعاء هذه المعلومات. ودساتير العالم معروفة ومتداولة. وقد أسهم المركز القومي للترجمة في مصر في إصدار موسوعة لدساتير العالم، ومما يشرفني أنني كتبت مقدمة لهذه الموسوعة. ومن شأن ذلك أن الجمعية التأسيسية التي ستتصدى لوضع الدستور لن تبدأ من فراغ، وإنما ستجد أمامها كثيرا من تجارب الدول المختلفة.

صحيح لكل بلد ظروفه وخصائصه، ومع ذلك فإنه في الدولة المدنية الحديثة، والأصل أنها تسعى لنظام حكم ديمقراطي، بدليل أنها تسعى لوضع دستور، والدستور لا يكون إلا في البلاد الديمقراطية؛ فإنه في الدولة الحديثة توجد خصائص وسمات عامة للدساتير، ثم توجد خصائص وسمات تنفرد بها كل بلد، وتعكس نفسها على دستورها.

وفي البدء لا بد من تحديد السمات الأساسية لنظام الحكم، وهنا لن نجد اختلافا كبيرا عن المواد الأولى في دستور عام 1971 فمصر بلد نظامها جمهوري، وهي جزء من الأمة العربية، ولغتها العربية ودينها الإسلام ومبادئ الشريعة الإسلامية هي المصدر الأساسي للتشريع. ومصر دولة مدنية ديمقراطية تأخذ بالتعددية الحزبية، ولا يجوز قيام الأحزاب على أساس ديني أو عرقي أو جغرافي. ومن السمات الأساسية إلى جوار التعددية السياسية تداول السلطة وسيادة حكم القانون، وسيادة القانون أساس الحكم في الدولة. وهكذا نجد أن هذه السمات الأساسية العامة لن تتغير في الدستور الجديد.

يأتي بعد ذلك باب الحقوق والواجبات الأساسية للإنسان بأجيالها الثلاثة؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي أصبحت تشكل جزءا أساسيا من أي دستور لدولة مدنية حديثة. والأصل أنه بالنسبة لهذه الحقوق الأساسية، فإن الدستور هو الذي يقررها وينظمها ولا يسمح للمشرع العادي بالنيل منها. ومن هنا فإن نصوص الدستور يتعين أن لا تكثر من عبارة الإحالة للقانون أو عبارة بناء على قانون، لأن هذه وسيلة تجعل المشرع العادي، عندما يريد، قادرا على الانتقاص من الحقوق الدستورية الأساسية، وهو الأمر الذي لا يحقق الحماية الدستورية الكاملة لهذه الحقوق.

ويجب في هذا الباب النص بوضوح على أن المواطنين جميعا أيا كانت انتماءاتهم العرقية أو الدينية متساوون أمام القانون، لا يفرق بينهم وبين بعضهم بسبب الجنس أو النوع أو الدين أو الجهة أو ما إلى ذلك.

الدولة المدنية الحديثة هي دولة كل المواطنين على قدم المساواة. ومن ثم فإن الدستور الذي تريده مصر لا بد أن يتضمن هذه القاعدة؛ قاعدة المساواة الكاملة بين المواطنين جميعا، فالتمييز بين مواطن ومواطن لا يجوز إطلاقا، ويصبح دائما مدموغا بسمة عدم الدستورية.

ويجب أن ينص في صلب الدستور على عدم التمييز بين المواطنين لأي سبب.

هذا عن القسم الأول في أي دستور حديث، المتعلق بالحقوق الأساسية.

تأتي بعد ذلك واجبات المواطنين تجاه الدولة، مثل خدمة التجنيد الإجباري، والمحافظة على المال العام، والوظائف العامة والتزاماتها، وفي هذا الخصوص (واجبات المواطنين) فالإحالة للقوانين العادية تكثر وتكون مقبولة.

يأتي بعد ذلك الباب الخاص بالسلطات العامة، وهو الباب الذي يكثر فيه الاختلاف بين الدول، نظرا لاختلاف النظم السياسية بين نظام برلماني ونظام رئاسي أو نظام مختلط بينهما، أو أي نظام سياسي آخر، حتى وإن كان نادرا، مثل حكومة الجمعية التي لا تجد لها تطبيقا إلا في سويسرا.

فماذا نقول بالنسبة لمصر من حيث تنظيم السلطات العامة؟ هذا هو مربط الفرس، كما يقولون.

تقديري أن مصر تحتاج إلى دستور يعتمد النظام البرلماني أساسا، ولكنه مع ذلك يأخذ ببعض سمات النظام الرئاسي. وهذا هو ما يسمى النظام المختلط الذي أخذ به دستور فرنسا (دستور ديغول) عام 1958.

والسبب في الأخذ بهذا النظام المختلط، الذي نفضله بالنسبة لمصر، أن النظام البرلماني يتفق تماما مع الملكيات الدستورية، كما هو الحال في بريطانيا، حيث تتركز السلطة التنفيذية في مجلس الوزراء. وحيث يوجد ملك لا دخل له بشؤون الحكم، يملك ولا يحكم. ولكن عندما يوجد على رأس الدولة رئيس للجمهورية جاء عن طريق الانتخاب المباشر من الشعب، فإنه من الصعب أن يقال لهذا الرئيس: لا سلطات لك مطلقا. كما كان الحال في عهد الجمهورية الثالثة والجمهورية الرابعة في فرنسا، منذ عام 1873 (الجمهورية الثالثة) وفي الفترة بين 1945 و1958 (الجمهورية الرابعة).

وعندما جاء ديغول بطريق الانتخاب المباشر رئيسا للجمهورية، فإنه عدل الدستور وأخذ بنظام يسمح لرئيس الجمهورية بالمشاركة في بعض السلطات التنفيذية مع مجلس الوزراء، بل وبعض السلطات التشريعية المقيدة مع البرلمان المنتخب، وبطبيعة الحال فإنه عند صياغة النصوص في صورتها الأخيرة ستجرى مواءمات ومناقشات كثيرة تبحث عن أفضل الصيغ والنظم.

المهم أنه بعد أن تنتهي الجمعية التأسيسية من وضع مشروع الدستور، فإن هذا المشروع يجب أن يطرح للمناقشة العلنية العامة في كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمشاهدة، وبعد هذه المناقشات يطرح مشروع الدستور على الشعب في استفتاء عام، وإذا جاءت نتيجة الاستفتاء بالموافقة، فإن معنى ذلك أن الشعب يعطي مشروع الدستور بإرادته قوة النفاذ والإلزام. وهكذا تكون الأمة هي مصدر السلطات جميعا.

هذا هو الدستور الديمقراطي الذي تريده مصر فيما أتصور.