صراع البورصة المصرية مع المطابع

TT

عام ونصف عام من عدم الاستقرار عاشها المصريون بعد قيام الثورة في 25 يناير (كانون الثاني) 2011. مدة طويلة بالنسبة لدولة ضخمة من كل النواحي؛ كثافة بشرية، ومساحة، ودورا إقليميا، وناتجا محليا، ومشكلات تتعلق بكل ذلك. كل شيء في مصر يوحي بالضخامة.

خلال هذه المدة عاشت البورصة المصرية، التي يقال إنها مرآة الاقتصاد، حالة من الترقب والخوف والتذبذب والقلق والانهيارات المتعاقبة، تعكس فعليا ما يحصل على الأرض في الميادين، وملاعب كرة القدم، وأمام المقرات الدبلوماسية من تحركات شعبية، وشغب، وعنف.

توقف التداول في البورصة المصرية في اليوم الثاني للثورة بعد أن خسرت أكثر من 18 مليار جنيه، ولم تعاود العمل إلا بعد تنحي حسني مبارك عن السلطة نهاية شهر مارس (آذار)، على أمل أن تنحيه سيشيع جوا من الاستقرار والهدوء في الشارع، لكن ما حصل أن تأثير مبارك طوال عام ونصف العام لم يكن إلا خلال شهرين في بداية الثورة، وأيام قليلة اختصت بأخبار محاكمته لاحقا، عدا ذلك كان المصريون خلال أكثر من عام يواجهون تداعيات ثورتهم بكل خلافاتهم الداخلية وتنازعهم على السلطة في ظل الفراغ السياسي الكبير. لذلك كان اليوم الأول لفتح أبواب البورصة بعد تنحي مبارك موعدا جديدا لخسائر جديدة رغم الاحتياطات التي قامت بها إدارة سوق الأسهم المصرية.

خلال أيام الاعتصامات والاحتجاجات الطويلة كان كل السياسيين والثوريين يعلمون أن البورصة المصرية تعاني نزيفا حادا، لكن أولوياتهم كانت مختلفة، حيث رأوا أن الاستقرار السياسي إن حصل سيجر خلفه الاستقرار الاقتصادي، وستعود الأمور أفضل مما كانت، وكان بعضهم يرفض مجرد الحديث عن مخاوف من انهيار الاقتصاد المصري ويعتبره ابتزازا من أصحاب المصلحة أو من فلول النظام السابق.

حتى في وقت اشتداد الأزمة حينما كانت مصر والعالم في انتظار إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية، وفي وقت أعلن فيه المرشحان، محمد مرسي وأحمد شفيق، أنهما فازا في الانتخابات، خسرت البورصة 4 مليارات جنيه عندما أرجئ إعلان النتيجة لأيام قليلة، ولم تتنفس السوق الصعداء وتسترخ إلا بعد أن ظهر اسم الفائز. وفيما كان المصريون يحتفون بنهاية الأزمة ويقيمون طقوس تسليم الرئاسة للدكتور مرسي، كانت البورصة ترتب نفسها استعدادا للمناخ الإيجابي الذي تولد عن الاستقرار السياسي.

عاشت البورصة المصرية أسبوعين من النشاط الأخضر بعد إعلان النتاج الرئاسية، وحققت مكاسب تاريخية قاربت 50 مليار جنيه، لكن من سوء الحظ أن عادت الأسهم لتهوي بعد قرار الرئيس محمد مرسي إحياء مجلس الشعب ودعوته للانعقاد بعد أن حكمت المحكمة الدستورية بحله، فخسرت البورصة في اليوم التالي لقرار الرئيس أكثر من 11 مليار جنيه، بينما ارتفع مؤشر السوق بشكل كبير بعد ذلك مدفوعا بالتفاؤل بخبر زيارة الرئيس مرسي للسعودية وتوقع ازدهار العلاقات بين الدولتين خاصة على المستوى الاقتصادي.

إنها حكاية ذات تسلسل مثير لكنها معلومة النتيجة، فالبورصة مثل الإنسان؛ حساسة، وتحتاج أجواء من الطمأنينة لتعمل. وإذا كان رأس المال جبانا فإن البورصة هي الجبن كله.

ولأن مصائب أهل البورصة قد تكون عند غيرهم فوائد، فقد كان القطاع الرابح طوال هذا الوقت المضطرب هو المطابع، التي لم تكن سوق العمل تنشط فيها إلا كل خمس سنوات خلال فترة الدعاية الانتخابية، لكن هذه المرة طال انتعاشها، فبدأ مع قيام ثورة يناير، ولم ينقطع حتى الآن، مرورا بمناسبات الانتخابات البرلمانية والرئاسية، بل وأصبح نشاطها أسبوعيا، ففي كل ليلة جمعة تدار ماكينات المطابع ليتصدر إنتاجها ظهيرة يوم الجمعة الميادين العامة والحوائط. وكم كانت فرحة العاملين في هذا القطاع كبيرة بخبر إعادة الانتخابات البرلمانية. لقد شهدت سوق الطباعة موسمين من الازدهار الذي لم تشهد مثيلا له من قبل. حتى إنه يقال إن السوق التي راجت مع المطابع هي التأليف، فالعبارات الدعائية أو الاحتجاجية على اللافتات والملصقات والتي يشترط صاحبها البلاغة في اللفظ والمعنى فتحت باب رزق للشعراء والكتاب الصغار بمقابل مادي لا يقل عن عوائد تأليف ديوان شعري.

صاحب المطبعة مثل صاحب الأسهم، لا يعنيه اسم صاحب الكرسي البرلماني أو الرئاسي، إنما همه الأول والأخير أرباحه التي قد تزيد أو تنقص وفقا لمستوى الاستقرار، وهذه ليست تهمة لمحلات الطباعة فهي في النهاية تقدم خدمة مشروعة ومطلوبة من الناس.

صحيح أنه لا مقارنة بين حجم مكاسب البورصة أو خسارتها وحجم المبيعات المطبعية لحساب الثوار في احتجاجاتهم أو المرشحين في انتخاباتهم، لكنه صراع حقيقي بالنسبة للمساهمين الصغار وأصحاب الشركات الصغيرة والمتوسطة المدرجة في السوق المالية لأنهم يتأثرون سلبا كلما طالت مدة بقاء ميدان التحرير خاليا من السيارات المتجهة لأماكن العمل، ومليئا بالمحتجين الغاضبين.

[email protected]