ذهبي الأخلاق وديع المقام

TT

غاب سلامة أحمد سلامة، من دون أن أعرف إذا كان صديقا لي أم مجرد زميل ذهبي الأخلاق، وديع المقام، نير الأفكار. فكلما التقينا، كان صوته خافتا بعكس موقفه، وكان كلامه قليلا، منقى، وشديد الهدوء، مثل زاويته التي انتقلت من «الأهرام» إلى «الشروق»، حيث ازداد إشراقا وتواضعا والتزاما بالمهنة التي أحبها، أكثر بكثير مما أحب معظم الذين امتهنوها.

ظل سلامة أحمد سلامة كاتبا لا يقلد أحدا على الرغم من تعلقه بالأستاذ هيكل الذي ضمه إلى «الأهرام» بعد رحلة قصيرة مع «أخبار اليوم» مراسلا في ألمانيا. ولعل سلامة تأثر إلى حد بعيد بمدرسة الصحافة الألمانية، التي تصدر بعض أهم صحف العالم، وأكثرها دقة ومحافظة. وقد أكون مخطئا في القول إنه لم يكن في أسلوبه يشبه أحدا في جيله وبين زملائه.

التقى من الصحافة بزاويته، تاركا الأمكنة لسواه. وعندما أصدر «وجهات نظر» قدم لمصر وللعالم العربي صيغة جديدة من المجلات، التي لا تتنازل عن النوعية الراقية لحساب الجذب والاستسهال، لكنه أيضا سعى إلى تقريب المثقفين من قارئ لا يحب كثيرا إثقالهم عليه بالفقرات المطولة والجمل غير المفهومة.

مال صحافيون كثيرون إلى مدرسة هيكل، في مصر وخارجها. فهم من يقول لمن يقابلون، وليس هو. وهم من يسائلون الزعيم أو المسؤول فيما بعد، ألم أقل لك في 77 أكتوبر (تشرين الأول) 1977 إن الأفضل لك أن تتخذ ذلك الطريق. سلامة أدرك برقيه، أن هناك هيكلا واحدا فأحبه ولم يقلده. تركه يتعالى على مدى العقود في الساحة التي أبى الخروج منها في ظل عبد الناصر، فلما غاب صاحبها جعلها ساحته، بلا تردد أو تمهل.

اختلاف كثير في الطبع. وتميز شديد في طباع سلامة علينا، أهل المهنة، مهما تواضعوا ومهما امتلأوا بأنفسهم ولا شيء آخر.

يترك سلامة الكثير من الأثر والقليل من الضجيج. وكما ترك فراغا معلنا في «الأهرام» سوف يترك مكانه فارغا في «الشروق». المدارس الكلاسيكية تخرج الكثير من التلاميذ على مر الأجيال، لكنها تقسو في تخريج الأساتذة. على الرغم من تعلقي وانبهاري الإنساني والمهني بأحمد بهاء الدين، أكاد أجرؤ على القول إن سلامة كان أقرب إلى بهاء من أي زميل آخر. تلك الطينة الأصيلة التي تبدأ كل صباح بمحاسبة نفسها، ثم تقوم بعد ذلك إلى القلم والمحبرة، اللذين لم يكونا فقط حياة بلزاك وغزارته الأدبية، بل غزارة أجيال كثيرة رأى أهلها في الحبر والورق بساط الريح وحصاد البساتين.

سوف أنتظر مقال سناء البيسي عن سلامة. هذه صاحبة قلم مغرد في آفاق المهنة مثل طواحين دون كيشوت. غالب ودون توقف. كلما رأت شيئا ظنته طاحونة الصحافة وأمل الكتابة. طالما عرف قلمها كيف يلتقط موجة الأساتذة وكيف يهرق حبره على أعتابهم. لها حاسة متدفقة، قد تكون حاسة الإجماع، لكن في محابرها تصير ذات إبداع خاص. نحن لا نستحق أن نرثي غائب «الشروق».