البحث عن المواهب تحد كبير يواجه القطاع الخاص

TT

في وقت سابق من الأسبوع الحالي، أجرى معي أحمد ياسين حوارا داخل أحد الاستوديوهات في لندن، ضمن سلسلة من البرامج الخاصة بعالم المال والأعمال يقوم بإعدادها لحساب التلفزيون السعودي، وقد تركز النقاش في معظمه على منطقة اليورو، وخصوصا إسبانيا، وكان أحد الموضوعات التي تطرقنا إليها ظاهرة البطالة في إسبانيا وكيفية خلق فرص عمل جديدة بها، وسألني أحمد ما الحل؟ ويا له من سؤال بسيط، ولكن ما أصعب الإجابة عليه. وهذا السؤال يقودني إلى القضايا الأعم التي تتعلق بنقص مستويات العمالة على وجه العموم،

وقد عادت البطالة من جديد لتكون موضوع الساعة في الجدل الاقتصادي الدائر في إسبانيا، وكذلك في كثير من البلدان الأخرى، حيث بلغت وتيرة فقدان العاملين لوظائفهم في إسبانيا مستوى من أعلى المستويات التي سجلت على الإطلاق في أحد الاقتصادات المتقدمة.

وللإجابة على هذا السؤال، لا بد أن ننظر إلى دور كل من القطاعين العام والخاص، فالحكومات عليها أن تنصت إلى متطلبات القطاع الخاص، وأن تعمل على إصلاح قوانين العمل حتى لا تخشى شركات القطاع الخاص من خلق فرص عمل جديدة.

ولكن لماذا انتهى الحال بكثير من الناس إلى الجلوس من دون عمل؟ ربما يكون الجواب الأولي واضحا، وهو أن الاقتصاد حينما يتباطأ يتخلص من الوظائف، وكلما زاد التباطؤ ارتفع عدد الوظائف التي يتم التخلص منها. وفي ظل حالة كساد مستحكمة كتلك التي نشهدها، فإن معدلات البطالة ترتفع ارتفاعا حادا.

ومن أهم الأسباب التي تقف وراء ذلك السياسة العامة، فحينما تنتهج الحكومات سياسات رامية إلى حماية العمال، فإنها تقدم أحيانا حوافز للشركات كي «لا» تخلق فرص عمل جديدة، ومن ثم فهي تتسبب دون أن تدري في البطالة. ومن أمثلة تلك السياسات رفع الحد الأدنى للأجور أكثر من اللازم، وقواعد الاستغناء عن الموظفين التي تجعل الأمر مكلفا على الشركات إذا احتاجت إلى الاستغناء عن موظفيها، والسخاء المفرط في تعويضات البطالة التي تشجع العمال على عدم قبول الوظائف التي تعرض عليهم، ومؤسسات المساومة على الأجور التي تحدد مستويات أجور أعلى من أن تمكن الشركات من المنافسة. وبالإضافة إلى ذلك، فعندما تكون الضرائب مرتفعة، يصبح من المكلف تعيين العمال، وتلجأ الشركات بدلا من ذلك إلى شراء الماكينات... أو خلق فرص عمل في بلد آخر.

ويمكن رؤية أمثلة على هذه السياسات في كل مكان في العالم، إذ توجد أعراض حتى في الاقتصادات القوية تدل على وجود سياسات عمل غير منطقية. على سبيل المثال، في كثير من البلدان الأوروبية، فإن العاطل العادي يظل خارج سوق العمل لفترات طويلة جدا، مما قد يبين أن تعويضات البطالة سخية جدا جدا وأنها تقلل من الحافز لقبول وظائف بأجور أقل جاذبية.

ومن أكبر المشكلات التي تواجهها كثير من البلدان مشكلة التنافسية، وهي مشكلة واضحة في أوروبا، فالبلد الذي توجد به معدلات بطالة عالية نسبيا قد يجتذب مئات الآلاف من المهاجرين، وهذا يبين أن المواطنين لديهم ما يحفزهم على عدم قبول الوظائف التي يبدي المهاجرون استعدادا لقبولها. وتعد هذه أعراضا على وجود أسواق عمل تحكمها كثير من القيود التنظيمية، وفي بعض الأحيان تكون بها اختلالات حقيقية - وهي مشكلات خطيرة تؤثر على القدرات التنافسية.

ولا بد أن يكون الحل في يد القطاع الخاص، فهو المكان الذي تبنى أو تنهار فيه القدرات التنافسية الحقيقية، وهذا يمثل تحديا يتعين علينا جميعا مواجهته، كما أن الحكومات بالطبع لها دورها الذي ينبغي أن تلعبه. ومن الممكن النظر إلى هذا الأمر على أنه نوع من الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وإن كانت شراكة معقدة للغاية.

وما ندعو إليه هو إيجاد قطاع خاص أكبر وأكثر حيوية وتنافسية، ويجب على الحكومات الآن أن تنتهز الفرصة لإصلاح أسواق ومؤسسات العمل كي تصبح أصغر حجما وأكثر كفاءة وتقدم حوافز أقوى للعمل بها، كما ينبغي أن تحل محل إعانات البطالة دورات تدريبية إلزامية (بحيث لا تتلقى إعانة البطالة إلا إذا حصلت على هذه الدورات التدريبية)، وينبغي كذلك أن تعمل مكاتب العمل الحكومية بشكل فردي مع العاطلين عن العمل، كي تساعدهم على إعداد سيرهم الذاتية والتدرب على كيفية اجتياز المقابلات الشخصية واكتشاف نقاط القوة لديهم. وإذا تم اتخاذ هذه الخطوات قبل أن يتحقق التعافي الاقتصادي في النهاية، فسوف تكون اقتصادات العالم مرشحة لأن تخلق فرص عمل أكثر وأفضل مما كانت تفعل في السابق.

إن العالم يتغير وكذلك لا بد أن تتغير الأفكار، ذلك أنه في ظل العمل على إيجاد مناخ اقتصادي مستقبلي يتسم بالمزيد من الانفتاح وارتفاع التنافسية وانتشار الاتجاهات الاقتصادية الجديدة والابتكارات المعلوماتية والتكنولوجية وغيرها من خصائص ومزايا العولمة، فإنه تظهر تحديات جمة أمام الاقتصادات والأنشطة التجارية في جميع أنحاء العالم.

ومن أجل تنمية قدرات الأيدي العاملة، فمن الضروري مراجعة وتكثيف مجالات وجودة التعليم الفني وتدريس العلوم الإدارية والتدريب المهني، كي تتماشى مخرجاتها مع متطلبات المؤسسات التجارية في جميع التخصصات.

والآن لننتقل إلى القطاع الخاص، فعلى شركات القطاع الخاص أن تبدي روح مبادرة أقوى بكثير فيما يتعلق بتكوين رؤية واضحة حول المهارات التي يتعين عليها امتلاكها كي تحافظ على قدراتها التنافسية واستدامة أنشطتها التجارية. ثم يتعين على شركات القطاع الخاص أن تتعاون مع السلطات التعليمية لتخريج أشخاص يمتلكون المهارات المناسبة للمستقبل، وهذا يشمل تخصص القيادة.

فمن نافلة القول: إن إدخال تحسينات على أداء وإنتاجية المشروعات التجارية يتوقف على كفاءة وجودة إدارة تلك المشروعات، وهو أمر له أهمية بالغة في مواجهة تنامي المنافسة الدولية. وبالإضافة إلى ذلك، فإن هناك حاجة ملحة إلى توجيه اهتمام خاص إلى هذا الجانب في المشروعات الصغيرة والمتوسطة.

ويمثل البحث عن المواهب واحدا من أهم التحديات التي تواجه القطاع الخاص، ورغم أن الكثيرين يرون أن الزيادة الهائلة في أعداد الشباب في الشرق الأوسط تمثل المعرض المطلوب لاكتشاف المواهب، فإن هذا يعد مبالغة في تبسيط الموضوع. وينطبق هذا على المملكة العربية السعودية بقدر ما ينطبق على أي دولة أخرى، فقد شهدت السعودية انتعاشا اقتصاديا استثنائيا على مدار السنوات القليلة الماضية، ويعود الفضل الأكبر في ذلك إلى الارتفاع القياسي في أسعار النفط، وهذا أمر عظيم ولكنه خلق تحديات كذلك، حيث أصبح رفع مستوى قدراتنا القيادية والإدارية أمرا حيويا من أجل خلق ثقافة تتمتع فيها مزيد من المؤسسات بالطموح والثقة والمرونة والمهارات التي تمكنها من النجاح في المنافسة، سواء محليا أو عالميا، فالقطاع العام اليوم لم يعد في مقدوره أن يضمن توفير فرص عمل ملائمة وكافية لتلك الأعداد المتزايدة من الخريجين وغيرهم ممن يدخلون أسواق العمل.

وإذا أخذنا مثال السعودية، التي تعد الاقتصاد الأكبر في العالم العربي، فإن الطفرة الهائلة في أعداد الشباب تجبر المجتمع السعودي على تقليل اعتماده على العمالة الوافدة كي يفسح المجال أمام التزايد السريع في أعداد السعوديين، من خلال برنامج «نطاقات»، وهو برنامج تحاول الحكومة من خلاله أن تدفع القطاع الخاص، الذي يعد المصدر الرئيسي لفرص العمل في المملكة، إلى توفير مزيد من الوظائف للسعوديين وتقليل اعتماده على العمال الوافدين.

ولكن رغم تطبيق برنامج «نطاقات»، ما زالت السعودية تواجه عجزا في القادة المحليين من القطاع الخاص. ونظرا لانخفاض متوسط أعمار السكان بها، وكذلك عدم التوازن بين النمو والمواهب المتوافرة في القطاع الخاص، فربما يتعين على البلاد أن تزيد من وتيرة الجهود التي تبذلها للتغلب على هذا العجز المتزايد في القيادات.

ورغم أن النظام التعليمي السعودي يقوم بعمل ممتاز في إكساب المهارات والمعارف الأساسية، فهو لم يصمم بحيث يزود الشباب بالمهارات والاتجاهات اللازمة لإعدادهم للقطاع الخاص الحديث الذي يخوض منافسة عالمية، ونتيجة لهذا، فإن مؤهلات الشباب لم تعد تتناسب مع احتياجات أصحاب العمل. وعلاوة على هذا، فإن ثلثي جميع طلاب التعليم العالي يتخصصون في العلوم الإنسانية وغيرها من المجالات الأدبية التي لا تتماشى مع متطلبات سوق العمل، وهذا يشبه ما يحدث في كثير من البلدان الأوروبية، وليس المقصود منه انتقاد التعليم السعودي على الإطلاق.

وما يدل عليه هذا هو أن قادة النشاط التجاري في القطاع الخاص لا بد أن يكونوا أكثر وضوحا بكثير في تحليل ثم تحديد المهارات التي يحتاجونها من أجل تعظيم المزايا النسبية التي يمتلكها النشاط التجاري والبلاد بأسرها. ويعتبر البحث عن المواهب تحديا جوهريا أمام القطاع الخاص، والقطاع الخاص هو الحل لمشكلات نقص مستويات العمالة التي تواجه كثيرا من البلدان اليوم، وإن كان هذا يتطلب قيادة قادرة ومتميزة.

* أستاذ زائر في «كلية إدارة الأعمال» بجامعة «لندن متروبوليتان» رئيس مجلس إدارة شركة «ألترا كابيتال»