الثور الإسباني وسهام الاقتصاد!

TT

حقق الشباب الإسباني (كاسياس وتشافي وإنييستا وباقي لاعبي المنتخب) مجموعة إنجازات كروية تاريخية لم يسبقهم إليها أي منتخب عالمي، مما جعلهم الأفضل عالميا والأقدر على تجاوز منتخبات عريقة كالمنتخب الكرواتي، والمنتخب الفرنسي، والمنتخب الإيطالي في النهائي الأوروبي 2012.

فرحة هذه الإنجازات أفسدتها آلام السهام الاقتصادية التي تعصف بالبلاد والتي حولت 25 في المائة من الإسبان إلى عاطلين عن العمل (أي أن نصف الشباب الإسباني عاطلون عن العمل فعليا)، وهو أعلى معدل في دول أوروبا كافة، بما فيها اليونان التي تقع بين مطرقة الديون وسندان الإفلاس.

هناك عدة أسباب لما يمر به الاقتصاد الإسباني مؤخرا، لكن هناك ثلاثة أسباب رئيسية تسببت بشكل مباشر في هذه الأزمة:

أولا: انهيار القطاع العقاري، حيث انخفضت أسعار العقارات بنسب تفاوتت بين 25 في المائة إلى 40 في المائة خلال السنوات الأربع الأخيرة؛ وذلك تسبب في جعل كثير من الإسبان (المقترضين عقاريا) لا يوفون بسداد قروضهم العقارية، وإعادة منازلهم التي اشتروها سابقا للبنوك الإسبانية التي أقرضتهم.

بمعنى أنه في حال اشترى شخص ما منزلا بقيمة مليون يورو، وبدأ في السداد، ثم انخفض سعر المنزل إلى 600 ألف يورو، فبالتأكيد سوف يقوم بإرجاع المنزل للبنك ولن يقوم بإكمال سداد القرض.

وبازدياد تعثر المقترضين وإعادة منازلهم للبنوك، أصبحت البنوك لا تمتلك السيولة المالية الكافية، ولا تجد عملاء جددا لشراء هذه المنازل، مما يعني أن البنوك أصبحت في ورطة عدد هائل من المنازل التي لا يقوم أحد بشرائها أو سداد أقساطها.

ومن جهة أخرى، توقفت شركات التطوير العقاري عن بناء منازل جديدة، وتم تسريح معظم عمال البناء الذين يشكلون 13 في المائة من القوة العاملة في إسبانيا، وهو أحد مسببات زيادة نسبة البطالة.

ثانيا: انخفاض الميزة التنافسية للمنتجات الإسبانية مقابل منتجات دول كالصين وكوريا الجنوبية. فصناعة النسيج الإسبانية، مثلا، تم تدميرها بشكل شبه كامل من قِبل المنتجات الكورية ذات الجودة العالية والأسعار الأقل.

ثالثا: الفشل الحكومي في إدارة الأزمة منذ بدايتها.

فإسبانيا من أفضل الدول التي تصدت للانهيارات التي عصفت بأسواق المال عام 2008 وذلك لصرامة بنكها المركزي وقوانينها المالية المشددة، ولكن لمصالح شخصية قام الكونغرس الإسباني (الذي يمتلك معظم أعضائه عقارات مختلفة) بالتصويت لصالح قوانين مالية أكثر تساهلا لتشجيع البنوك على المزيد من الإقراض العقاري، والتي كانت آثارها كارثية لاحقا.

ومن جانب آخر، إذا ما قارنا الحال في إسبانيا بدولة مثل ألمانيا، بخصوص زيادة الرواتب لموظفي القطاع العام والخاص، فقد ظلت ميزانية الرواتب للقطاع العام في ألمانيا ثابتة منذ عام 1999 إلى 2011، بينما الحكومة الإسبانية كانت سخية أكثر، وزادت الرواتب خلال الفترة نفسها بمقدار 35 في المائة تقريبا بشكل غير مدروس؛ مما تسبب في ارتفاع بند المصروفات.

الحكومة الإسبانية تحاول جاهدة إصلاح ما أفسده الدهر (أو ما أفسدته أيديها) فقامت بتقليص الإنفاق بشكل كبير ورفعت الضرائب وجمدت ارتفاع رواتب موظفي الحكومة، وأوقفت التوظيف في القطاع الحكومي، فيما قامت أيضا بسن قوانين تسهل من تسريح الموظفين في القطاع الخاص، لضمان عدم انهيار الشركات الخاصة والإبقاء على بصيص أمل لعودتها مرة أخرى بشكل قوي بدلا من انهيارها وزيادة إرهاقها بمصاريف لا تستطيع الوفاء بها.

إسبانيا تعاني في جميع القطاعات، لكن القطاع الخاص هو المعضلة الأكبر. وهذا يتضح من خلال الدين العام للقطاع الخاص مقارنة بالقطاع الحكومي، فالدين الحكومي مقارنة بالناتج الاقتصادي السنوي ظل ثابتا خلال 10 سنوات من (2000 إلى 2010) عند 71 في المائة. أما القطاع الخاص (للمدة نفسها) فارتفع من 187 في المائة عام 2000 إلى مستوى قياسي وهو 283 في المائة عام 2010.

كيف يبدو الوضع اليوم في الشارع الإسباني؟

- بنك «Bankia» العملاق (وهو أكبر بنك عقاري في إسبانيا) أعلن حاجته لمبلغ 19 مليار يورو لمواجهة ديون متعثرة. لدرجة أنه خلال سنتين فقط هبط سعر سهم البنك بنسبة 75 في المائة عن سعره الأساسي، وهو (3.75 يورو في يونيو/ حزيران، 2010، إلى أقل من يورو واحد في يونيو 2012).

- تم خفض تصنيف إسبانيا من قبل وكالات التقييم الائتماني، والذي أدى بدوره لصعوبة وارتفاع نسبة أي قرض تطلبه حيث إن الخطورة في التعامل معها قد زادت بشكل كبير. وقد وصلت نسبة الفوائد للقروض الحكومية مؤخرا إلى 7 في المائة، وأعلن وزير المالية الإسباني يومها أن أسواق المال قد أغلقت أبوابها في وجه إسبانيا.

- أصدرت الحكومة الإسبانية سندات بقيمة 2.2 مليار يورو، وباعتها بنسب وصلت إلى 6.07 في المائة لحاجتها للنقد في تسيير أمور الدولة.

قبل ذلك ظلت حكومة إسبانيا تنكر بشكل رسمي ومتكرر حاجتها لأي دعم مالي، وأكدت باستمرار قدرتها على تجاوز الأزمة. لكن في شهر يونيو 2012 طلبت اجتماعا عاجلا لوزراء مالية اليورو لطلب قروض مالية تساعدها على حل مشاكلها المالية، وهو ما أسفر عن الموافقة على منح إسبانيا دعما بمقدار 100 مليار يورو.

وكشف تقرير بعض المحللين الذين قاموا بزيارة البنوك الإسبانية ومراقبتها من الداخل أنها بحاجة إلى 62 مليار يورو إضافية؛ وذلك لانكشاف العديد من استثماراتها على مخاطر عالية جدا.

وما زالت الحكومة الإسبانية تردد أنها قادرة على تجاوز الأزمة بارتياح، وأن هذه المبالغ لن تذهب للحكومة لكنها سوف تذهب لدعم القطاع المصرفي الذي بدوره سيعالج مشكلة توقف عجلة الاقتصاد والتنمية، حيث إن البنوك الإسبانية شارفت على الانهيار وتوقفت تقريبا عن إقراض الأفراد والمؤسسات لعدم وجود السيولة الكافية.

رغم كل ما سبق تظل إسبانيا - التي تتربع على عرش كرة القدم العالمية، والتي وضعت خططا ذكية وطويلة المدى لجعل أنديتها ورياضتها الوطنية تتبوأ المرتبة الأولى عالميا - هي رابع أقوى اقتصاد في منطقة اليورو بعد ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وثامن دولة في العالم من ناحية إجمالي الناتج المحلي، فدعمها كان متوقعا ولم يكن مفاجئا للمتابعين والمهتمين بالشأن الاقتصادي.

فإسبانيا دولة صناعية من الطراز الأول، ولديها موارد مختلفة، وأي متابع منصف يدرك أن إسبانيا تستطيع الخروج من أزمتها لكنها بحاجة إلى إدارة قوية وشعب صبور لتحقيق معجزة اقتصادية جديدة كما فعلها رياضيوها.

* كاتب اقتصادي سعودي