قصة محزنة!

TT

لا أستطيع منع نفسي من الابتسام كلمة قرأت تعليقا على جملة قلتها أمام وزارة الخارجية الروسية، تحدثت فيها عن رجل لم تتلوث يداه بالدم السوري، يمكن أن يتولى قيادة حكومة انتقالية لفترة قصيرة لا تتخطى الأشهر الثلاثة، هو العميد مناف طلاس.

عندما قلت هذا، كنت أرد على صحافي سألني إن كان هناك من لم تتلوث يداه بالدم من أهل النظام، وهل المعارضة على استعداد للتعاون معه؟ تذكرت ما تقوله المعارضة بإجماع أصواتها، وهو أنها تريد التعاون خلال المرحلة الانتقالية مع أشخاص من داخل النظام لم يلطخوا أيديهم بدماء السوريين، عسكريين كان هؤلاء أم مدنيين، وتذكرت أن المجلس الوطني يعد في مسودة برنامجه السياسي بتشكيل حكومة وحدة وطنية – وليس مرحلة انتقالية - تجمعه مع المؤسسة العسكرية، وأن اختيار من يمثل هذه المؤسسة، التي تتلطخ أيدي ممثليها وقادتها بالدماء حتى الأكتاف، لن يترك للمجلس أو لغيره من فصائل المعارضة. تذكرت أخيرا أن مناف طلاس رفض منذ يوم الانتفاضة الأول الحل الأمني، وقال بحل سياسي يقوم على إصلاح النظام وإنجاز مصالحة وطنية، وبالتالي على تغيير في النظام والسلطة تقبل به المعارضة، وأنه زار مناطق مختلفة وحاور مثقفين كثيرين من هذا المنطلق، ولم يتخل عن موقفه عندما تبين له أن بشار الأسد ذاهب في العنف إلى حده الأقصى، وإنما قعد في بيته أو أقعد فيه، حيث كان تحت رقابة دائمة وبعيدا عن السلطة وأهلها.

ذكرت اسم مناف طلاس انسجاما مع فكرة عدم تلوث الأيدي بالدم، وفكرة وجود عسكر في الحكومة الانتقالية، وقلت في نفسي: هو ذا عميد في الجيش لم تتلوث يداه بدماء مواطنيه، ورجل إصلاح وتسوية سياسية أراد لها أن تحدث تبدلا في النظام، فلماذا لا يكون شريكا في حكومة مرحلة الانتقال، انسجاما مع ما تقبل به المعارضة؟

هكذا، لم يكن ما قلته خارج أي سياق معارض، بل كان ترجمة لأفكار أجمعت فصائلها كلها عليها. لكن الدنيا قامت ولم تقعد، فمن قائل إنني نصبت حكومة عسكرية بعد أن ثار الشعب على حكم العسكر، ومن قائل إن بشار الأسد أرسل مناف طلاس إلى باريس كي يراني وأنني ذهبت إلى موسكو لإقناع الروس بحكومة يتزعمها، وأن كلامي يؤكد نجاح الخطة الأسدية، ومن قائل إن طلاس لطخ يديه بدماء السوريين، ومن قائل إنني قبضت أموالا منه لأعمل معه رئيس وزراء... إلخ. الغريب أن من قالوا هذا الكلام ضد حكم العسكر ينتمون في معظمهم إلى الجانب الذي يريد تشكيل حكومة وحدة وطنية مع المؤسسة العسكرية، التي تقتل السوريين منذ عام ونصف العام، كي تشرف معه على مرحلة نقل سوريا من الاستبداد إلى الديمقراطية! أو أنهم من أبطال المؤامرة الأبدية، التي جعلتني قادرا على تعيين حكومة وتنصيب رئيس وزراء من قفا يدي، كما يقال، بعد أن اتصلت ببشار الأسد والروس في وقت واحد وأقنعتهما بقراري، كما جعلتني رجلا بلا ذمة وسوبرمانا ما إن يقبض بعض الدريهمات من أحد حتى يعينه رئيس وزارة في بلد لا يعرف أحد فيه رأسه من قدميه، ينخرط مئات الآلاف من مواطنيه في قتال لا يعرف الرحمة، وليس فيه من يمون في أحيان كثيرة حتى على نفسه!

إذا كان ما قلته ينسجم مع خط المعارضة، فلماذا شنت علي حملة طالب بعض المنخرطين فيها بقتلي قبل أن أقتل الثورة؟ أنا أفهم أن يقول الجيش الحر إنني لم أنسق معه، لأن هذا القول صحيح. وأتفهم صرخات الاستنكار التي تدين حكم العسكر، فأنا نفسي لن أوافق على هذا الحكم تحت أي ظرف، وأوافق على بقاء أعين الشعب مفتوحة علي وعلى غيري، لمحاسبتنا على كل كبيرة وصغيرة، لكنني لا أفهم ولا أقبل الكلام عن الخيانة، فمثل هذا القول يستحيل أن يكون ردا على اقتراح ينسجم مع ما تفكر المعارضة بأكثر وأخطر منه بكثير، دون أن يرفع أحد من المستنكرين صوته احتجاجا على حكم العسكر وقبض الأموال والخيانة!

هل شنت الحملات لأن السوريين خافوا حقا أن يكون ما قلته هو الحل؟ إذا كان هناك من صدق ذلك، فلسبب وحيد هو أنه يفتقر إلى الوعي السياسي والقدرة على المحاكمة الصحيحة. لو كانت لديه حدود دنيا من هذه القدرة، لضحك من الذين أوهموه بأنني عينت رئيس وزراء في موسكو، ولقال لنفسه: من أين لفرد معارض أن يفرض شخصا على أطراف متحاربة ودول متناحرة بينها قوى عظمى، ومعارضات متنافسة، بينما يعجز العالم عن الوصول إلى أي تسوية بين أطرافه أو عن بلوغ أي حل وسط يمكنه، ولو من بعيد، تهدئة الأوضاع السورية المتزايدة التفجر والخطورة والانتشار؟

مهما يكن من أمر: لم يصبح مناف طلاس رئيس وزارة، ولم تقم حكومة انتقالية، ولم يتوقف القتال، ولم يوافق العالم على التهدئة، ولم يكن الأمر غير جواب على سؤال: كلاهما افتراضيان.

لماذا إذن شنت الحملات الكلامية الضارية وأطلقت التهديدات المرعبة؟ أعتقد أن الجواب يكمن خارج قضية مناف طلاس. إنه ذلك الاستقبال الذي خص به وفد «المنبر الديمقراطي السوري»، وذلك الاهتمام الكبير به كطرف مستقل عن المال السياسي والأجهزة الأجنبية، اللذين قد يكونان أزعجا بعض من يتوهمون أنهم يمثلون شعب سوريا! لو انتظر هؤلاء قليلا ليقرأوا ما قاله النظام عن تصريح موسكو، وهو أن ترشيح طلاس للحكومة ليس غير مؤامرة حبكتها أيدي الصهيونية، فلربما كانوا صمتوا ووفروا على أنفسهم الشعور بالإحراج، الذي لا بد أن تسببه لهم خفة وضعتهم في صف غير بعيد عن نظام يريدون أن يكونوا في موقع يناقض موقعه!

يا إخوتنا الأعزاء: لا تبددوا رصيدكم لدى الشعب، واجعلوا الحوار سبيلكم إلى توضيح وتحديد المواقف، عندكم وعند غيركم، وإلا بدوتم في صورة غير كريمة ولا تليق بكم، تقوض صدقيتكم عند الناس، بينما أنتم بأمس الحاجة إلى الموقف الكريم والاحترام!