عبء الجمهورية المصرية الثانية

TT

دون كثير من استدعاء للشواهد، مصر هي قلب العرب. إن قرأت عن التطور التاريخي الحديث في المشرق العربي أو المغرب العربي، سوف تجد أن ما يحدث في مصر له تأثير بشكل ما على الأحداث. شيء من تأثير مصر الحديثة ترك أثره، خاصة منذ النصف الثاني من القرن العشرين. في العقود الستة الماضية اكتشف العرب مصر، واكتشفت مصر العرب، فقد كانوا قبل ذلك «شرقيين».

ثلاثة عوامل أسرعت في هذا التواصل الأكثر قربا: الأحداث السياسية، وتطور وسائل الاتصال، والهجرتان السياسية والتعليمية إلى مصر، والمصرية للعمل والمساندة، جعلت القوة الناعمة المصرية، وفي بعض الأحيان الخشنة، تؤثر على الأحداث. معظم ما يحدث في مصر له صداه في جناحي العالم العربي، ويمكن أن يتكرر بصور كثيرة، انقلاب الضباط، الاشتراكية، الحزب الاشتراكي، كلها تجد لها صدى من اليمن حتى العراق، ومن المغرب حتى السودان.

إذا أخذنا بتلك الحقيقة الثابتة تاريخيا، فإن ما يحدث في مصر اليوم سوف يؤثر في الأغلب، بدرجات مختلفة في جوارها العربي، وأعني هنا غلبة التيار السياسي الإسلامي على القرار السيادي، وما يحدث بهذا الاتجاه كبير وتاريخي، وأيا كانت وجهته النهائية التي يرغب في الوصول إليها، سوف تتبعه بلاد ومجتمعات عربية، قد تكون هي الآن بالفعل حاضنة لأفكار قريبة من الأفكار التي تتفاعل في المحروسة.

من الأفضل ألا ننظر إلى الشجرة فقط، فإن أطلنا النظر إليها ودخلنا في تفحص الأغصان والفروع، انشغلنا بالتفاصيل، وإن فعلنا ذلك فاتنا تأمل الغابة بما تحويه من تحديات. الشجرة هنا هي الدخول في تفاصيل الصراع القانوني والسياسي المحتدم اليوم في مصر، أما النظر إلى الغابة، فيعني النظر إلى المخاطر المحتملة التي يمكن أن تفرزها الأحداث في مصر في المستقبل المتوسط والبعيد، وهو سيناريو لن يبتعد كثيرا عن تأثير سيطرة «الإخوان» على مقاليد الأمور، كما يتضح من سير الأحداث، وأي طريق سوف يسلكون في إقامة الجمهورية الثانية.

فكيف تختلف الجمهورية الثانية عن الأولى؟ علينا أن ننظر في سلبيات الجمهورية الأولى السياسية، ونرى إن كان القادة الجدد يمكنهم تجاوز تلك السلبيات، أو ربما تكرارها تحت أسماء وعناوين أخرى.

أول ما يستوقف المتابع في الجمهورية الأولى هو أن الحكم كان في الغالب «شخصانيا»، سواء الناصري أو الساداتي أو المباركي، يعتمد على الشخص، كما يأخذ موقفا من الشخص الآخر ويهمشه. في لقاء تلفزيوني يقدمه الصحافي جمال عنايت لشخصيات مصرية شهدت جزءا من التطور السياسي، على سبيل شاهد عيان، كان أحد اللقاءات مؤخرا مع السيدة ميرفت التلاوي، قالت إنها عندما كانت وزيرة للشؤون الاجتماعية، في وسط تسعينات القرن الماضي، أرادت أن تحتفل بالذكرى الستين لإنشاء الوزارة، وكان من المنطقي أن تقرر دعوة من كان على قيد الحياة من وزراء الشؤون السابقين، وأن ترعى المناسبة التاريخية السيدة حرم رئيس الجمهورية لاهتمامها بالشأن الاجتماعي. علم القصر الجمهوري، أن من بين المدعوين شخصيتين تقلدا منصب «وزير الشؤون الاجتماعية» في السابق، ولهما ميول ناصرية، هما ضياء الدين داود (عمل أقل من عام) وحكمت أبو زيد، فاعترض القصر الجمهوري على حضورهما! على الرغم من كل السنوات التي تفصل بين تاريخ الاحتفال، وفترة تسلم الشخصيتين للوزارة! هذا مثال بسيط ولكنه معبر عن المواقف «الشخصانية» التي يمكن لمتابع أن يجد مثلها في احتجاز حرية أول رئيس للجمهورية المصرية، محمد نجيب لفترة طويلة في وضع مترد، دون أن يكون قد حكم عليه من محكمة، وتخلص الرئيس السادات من مساعدي سلفه.

الدرس من كل تلك الشواهد التي تتكاثر في تاريخ حكم الجمهورية الأولى هو الإغراق في «الشخصانية»، والتحدي هو: هل تقوم الجمهورية الثانية ببناء «المؤسسة» عوضا عن «الشخصانية» في معالجة الأمور العامة؟ هناك احتمال أن يتم ذلك، واحتمال نقيضه، لكنه لن يحدث بغير وعي ورغبة في الاختلاف، قاعدة ذلك الوعي ضمان الحريات والاستجابة لمتطلبات العصر؛ فالقيادة الجديدة المصرية تركن على حزب وقبله تنظيم المفترض ألا يكون «شخصانيا» بسبب تكوينه وتاريخه، ذلك هو المفترض، ولكن المخاطرة أن يظل في جلباب السجون التي دخلها قادته التاريخيون أو الحاليون، كما يظل «متمحورا» في خطاب الضحية، والخوف من الآخر، في هذه الحالة لن يستطيع أن يبني المختلف، أي البناء المؤسسي للشأن العام، بدلا من «الشخصاني»، وحكم المجتمعات اليوم خرج من «الشخصانية» إلى «المؤسسية» بلا رجعة، فالزمن قد لعب دوره، ولكنه تساؤل مفتوح.

ثاني ما يستوقف المتابع هو أن الدساتير في الجمهورية الأولى كانت «تفصل» على قامة ولي الأمر، وقد شهدت مصر تغييرا في الدساتير، كثير منها ابتعد عن الاهتمام بالجوهري والعام، إلى الثانوي والتفصيلي، بل في بعض الأحيان كان «ترزية النظام» في الجمهورية الأولى يقومون بتغيير المقاس، متى ما قرر السيد الرئيس أن حجمه أصبح أكبر من المقاس السابق.

يكاد دارسو الدساتير في العالم أن يجمعوا على أن سلطة الرئيس في آخر دستور للجمهورية الأولى لا تفوقها أي سلطة لأي رئيس في العالم، بما فيها الديكتاتوريات العتيدة. التحدي أن يكون لمصر، كل مصر، دستور ليس على مقاس أحد من القوى الحالية، ولكنه على مقاس التحضر ومواكبة العصر. كتابة دستور محدود الأفق على مقاس الغالب اليوم، ستكون بمثابة «الجلطة» في عروق العمل السياسي المصري القادم، سرعان ما تؤدي إلى موت الجسم. هل يمكن للسلطة المصرية القائمة، في ضوء هذا الإرباك والارتباك أن تقدم دستورا على مقاس البلد وطموحاته؟ بعيدا عن الاستحواذ والمغالبة.

إن تم ذلك، فإن توقعي أن تسير الدساتير العربية التي تكتب أو تراجع اليوم بذلك المنحى، وتصبح القوة المصرية الناعمة فاعلة على أرض الواقع، العكس صحيح بالطبع، المؤشر الأول والأهم في الدستور القادم مستوى الحريات وضماناتها في المجتمع، وهي قضية مركزية يعتمد عليها تقدم مصر أو مراوحتها في المكان.

ثالث ما سوف يستوقف المتابع لما يجري في مصر «حين النظر إلى الغابة لا الشجرة» هو علاقة الديني بالسياسي، أنها منطقة شائكة ومليئة بالألغام، ومسكوت عنها إلى حد كبير حتى الآن. ومع الأسف، لم تستطع جماعة الإخوان، ربما بسبب انشغالها في عمليات الكر والفر مع الأنظمة السابقة، أو لأسباب موضوعية أخرى، تكوين وإبراز مسار فكري واضح يحدد العلاقة بين الديني والسياسي في الدولة الحديثة، وبين الدولة والتنظيم الدعوي. هذه أخطر الأثافي وأهمها في مجتمع يطل على القرن الواحد والعشرين، لعدد من الأسباب، أولها أن هناك بعض الاجتهادات التي تأتي من بعض المنتمين لحزب الحرية والعدالة (الذي بالكاد قد مرت سنة على تأسيسه) في تلك التصريحات من التناقض حول فكرة الحريات ما يقلق إيجابا أو حتى سلبا، وتترك مكانا رحبا للاقتطاف السلبي أو الإيجابي، ليس ذلك بمستغرب، فالتنظيم الحزبي يختلف عن التنظيم الدعوى، الثاني قديم وراسخ العلاقة بين أعضائه، والأول حديث لم يتدرب منتسبوه على آليات العمل السياسي. وثانيها أن الارتكان إلى التفسيرات الدينية في الحكم، قد تستهوي المتشددين (السلف المصري ومن حولهم) بالمزايدة، ولأن شروط أو قواعد وحدود (الإفتاء السياسي) غير محددة، كل يفتي في السياسة مستندا على النصوص بما يهوى، وما اتصل إليه من تفسير. تلك المواقف تؤدي إلى الإحراج إن لم يستجب لها، وإلى الفوضى في حال الاستجابة، وبتضارب التفاسير يصاب المجتمع بالدوار.

إن إدارة الاختلاف السياسي في السابق كانت صعبة، فما بالك بإدارة الاختلاف الفقهي السياسي اليوم؟ لن تجدي فيها المظاهر الورعة، ولا النيات الحسنة، ولا حتى القول المرسل، إنها تركن إلى الأعمال والقوانين!

تلك بعض الأعباء الكبيرة التي تواجه الجمهورية الثانية في مصر، ومن بعدها تواجه جناحي العرب المشرقي والمغربي، وهي حمل تنوء به ظهور الرجال الأشداء، ويحتاج بجانب التصور الصحيح إلى الشجاعة والحكمة.

آخر الكلام:

المصريون لا يفتقدون خفة الدم، وقد شاع مؤخرا تفسير للتفرقة بين الاعتدال والتشدد، يقول إن المعتدل هو الذي ينشغل بعلاقته بربه، أما المتشدد فهو منشغل بعلاقة جاره بربه.