لإحباط استراتيجية النظام للقضاء على الثورة

TT

القذافي وبشار، كلاهما استبعد وصول الحراك الشعبي إلى البلدين اللذين كانا يتحكمان في مصير شعبيهما. وكان واضحا من طريقة الطرح، أن رؤيتهما الحقيقية تختلف عما يقولان، لأنهما باشرا فعليا في اتخاذ تدابير أمنية صارمة، ووضعا خططا لكيفية المعالجة المبكرة. ولو خضعا في حينه لجهاز كشف الحقيقة، لكشف عندهما إحساسا عميقا بالقلق والاضطراب. وقد بدأ النظام في سوريا بإجراءات وتدابير لقمع المتظاهرين بمستويات متدرجة. ومع مرور الوقت وتصاعد الاحتجاجات السلمية، ارتكب خطأ فادحا في عدم الاستجابة للمطالب الشعبية، التي كانت بسيطة وقابلة للتسوية بغطاء عربي على طريقة الحل اليمني. إلا أنه بقي متمسكا بالحكم، بتشجيع من أشخاص من الطائفة، ربما كان بينهم متورطون، تعويلا على قدرة المؤسسات الأمنية. وهو تفكير لم يراع المتغيرات التي حدثت في المواقف الدولية ووسائل الإعلام والاتصالات، ولم يتنبه فريق الحكم إلى حالة التصادم العربي والإقليمي مع توجهات النظام الخارجية.

ومع تفاقم الموقف الداخلي، أطلقت السلطة يد الأجهزة الأمنية والقوات المسلحة في مجابهة المحتجين، فأدرك كثير من الضباط وثلاثة أرباع الجنود أنهم أصبحوا أدوات لقتل أبناء جلدتهم. ومن هنا، تشكلت نواة «الجيش الحر»، وتسارعت الانشقاقات إلى درجة لم تعد الموارد الشحيحة تكفي لتغطية تجهيز الملتحقين من العسكريين والمدنيين. ووجد النظام نفسه في ورطة كبيرة أبقاه فيها الدعم الخارجي، بدل إنقاذه بالخروج منها.

إن «مجزرة التريمسة» أثبتت اعتماد النظام استراتيجية ما يسميها «العمليات النوعية»، باختيار هدف سكني فيه معارضون، محدد ومعزول نسبيا، وتأمين تفوق ناري وعددي كبير تجاهه. ومهاجمة الهدف بتحقيق عنصر المباغتة، وبإسناد جوي ومدفعي كثيف، يعقبه دخول قوات برية إلى المكان المطلوب، وقتل كل من يقع في قبضتهم. لذلك، لم يعرض النظام أشخاصا قبض عليهم، بل على العكس تفاخر بقتل عدد كبير ممن أطلق عليهم تسمية «الإرهابيين»، واختلف عدد الضحايا بين 37 قتيلا حسب الرواية الحكومية، وأكثر من 300 حسب بيانات المعارضة. وحاول الناطق الرسمي بلسان وزارة الخارجية تسويف الحقائق، فأنكر استخدام مدرعات، ووصف بشكل عابر زج عربات نقل جنود «بي إم بي»، معتقدا أن عموم المتلقين لا يعلمون أن هذه عربات قتال مدرعة مزودة بمدفع من عيار 76 مليمترا.

ونتيجة التصدي الشعبي العظيم، تقوقعت الأجهزة الأمنية داخل مقراتها، أو انتقلت إلى مناطق تحت حماية الجيش، أو بدأت اتصالات جانبية مع الثوار. ولم تعد هذه المؤسسات تحصل على معلومات كافية عن الثوار، لأنها فقدت القدرة على التجنيد في ظروف ثورة تزداد انتشارا، وأصبح المحيط معاديا لها. وفي المرحلة الحالية، فإن ما بقي للأجهزة الأمنية من نفوذ نسبي يمكن مشاهدته في دمشق أكثر من أي مدينة أخرى.

إن «العمليات النوعية» على طريقة النظام في سوريا تعني المزيد من التضحيات البشرية من المدنيين وقوى الحراك الشعبي، وتقود في الوقت نفسه إلى التفكير في إجراءات مقابلة من قبل الثوار، وهي مسؤولية تقع على عاتق ضباط الثورة. وهذه لحظات الوقوف التام إلى جانب الشعب الذي يضحون من أجل مستقبله، وتفادي الانشغال بمن يقود. فالقيادة تفرض نفسها ميدانيا، ويمكن لجهات الدعم المساعدة في الوفاق والاتفاق. والظهور القيادي الناجح أمامه مسؤوليات جسام، أهمها المساعدة في إدارة الصراع الشعبي مع النظام، وحث الجنود على ترك تشكيلات السلطة بالجملة، وتحويلها إلى مقرات هيكلية خاوية.

ولم يعد النظام قادرا على تأمين ولاء رموز من الغالبية العظمى للشعب، بقدر ما يسعى إلى منع ظهورهم. وهو ما يتطلب الاهتمام بالسفير نواف الشيخ فارس ورفاقه اللاحقين، لما له من ثقل قبلي وسياسي وأمني، والعمل على توفير ظروف أفضل لاندماج عائلة العماد طلاس في الثورة، وأخذ النقاط الإيجابية من حديث فراس طلاس لجريدة «الشرق الأوسط» على محمل الجد.

ومن استراتيجية النظام ومسانديه، إثارة بؤر تهديد للدول الداعمة للشعب السوري، على غرار ما يحدث في ديار بكر مثلا. إلا أن هذه السياسة ستؤدي إلى نتائج عكسية، تزيد الضغط على السلطة في سوريا. فالقطيعة بينها وبين دول الدعم لم تعد قابلة للتراجع أو حتى للمراجعة، لأنها أصبحت قضية حاسمة ومصيرية. وشكل المنطقة سيرسم بريشة سوريا حصرا، والثورة هي التي ستنتصر حتما.