من سيكتوي بصيف التحدي في السودان؟

TT

عندما يهاجم رئيس شعبه أو حتى قسما منه، ويتحداه أن يتجرأ بالخروج ضده، فهذا دليل على أنه يواجه أزمة، وأن هناك مشكلة في الشرعية بحيث أن الحاكم لا يشعر بأنه في حاجة إلى تأييد الشعب لأنه يحكم بالقوة والقهر، وهذه بالطبع من علامات حكم الاستبداد والوقوع في فخ غرور القوة الذي يؤدي في النهاية إلى مواجهة غضبة الشعوب وإن طال الزمن. فالأنظمة التي تحترم شعوبها تعرف أن شرعيتها تستمد من هذا الاحترام، وتنبع من التأييد الشعبي لبقائها في الحكم، فإذا فقد هذا التأييد تخرج الحكومة من باب الانتخابات إذا توفرت أسس العملية الديمقراطية، أو بالثورات والانفلاتات إذا غابت سبل التعبير السلمي الديمقراطي.

المشكلة أن الكثير من الحكام لا يتعلمون خصوصا في أنظمة الاستبداد، لذلك سمعنا العقيد الراحل معمر القذافي يشتم شعبه ويصف المنتفضين ضد نظامه بالجرذان والكلاب الضالة والمحششين، وسمعنا الرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح يقول للمحتجين المطالبين برحيل نظامه «من أنتم.. لن أرحل، ارحلوا أنتم»، وكذلك سمعنا الرئيس السوري بشار الأسد يصف المحتجين بأنهم مرتزقة ومتآمرون، ويقول، على ذمة إدوارد جيرجيان السفير الأميركي الأسبق في دمشق، إن السوريين غير ناضجين وبالتالي ليسوا مستعدين للإصلاحات التي كان وعد بها منذ توليه الحكم خلفا لوالده ولم ينفذ منها شيئا يذكر حتى اندلعت الثورة ضد نظامه.

الرئيس السوداني عمر البشير يسير على المنوال ذاته حيث وصف المشاركين في المظاهرات التي انطلقت ضد نظامه وسياساته خصوصا بعد اشتداد الأزمة الاقتصادية التي نجمت عن انفصال الجنوب واتساع دائرة الحروب في الشمال، بشذاذ الآفاق وبالشماشة أو المتشردين. ثم سمعناه في خطاب ألقاه الأسبوع الماضي يقول «لدينا صيف مولع نار ولهبه سيشوي الأعداء»، وذلك ردا على من يرددون أن السودان يشهد بدايات ثورة على غرار ثورات الربيع العربي. فمن هم هؤلاء الأعداء الذين يتوعدهم البشير؟ هل هم أبناء الشعب الذي زعم البشير ذات مرة أنه جاء لخدمته وليس لحكمه، أم أنه يتحدث عن متظاهرين جاءوا من بلد أو كوكب آخر ليحتجوا على سياسات الحكومة التي قادت البلاد إلى أزمتها الحالية، وأنتجت وضعا اقتصاديا خانقا يدفع الناس ثمنه معاناة تتزايد يوما بعد يوم؟

تصريحات الرئيس السوداني وعدد من كبار مساعديه ومسؤولي حزبه الذين تباروا في الهجوم على المحتجين ووصفهم بمختلف النعوت، تعكس عمق أزمة النظام الذي تأكل بعد ثلاثة وعشرين عاما في السلطة، وطفت إلى السطح علامات ترهله من الفساد الذي استشرى في مفاصله، إلى مذكرات الاحتجاج الداخلية التي تعكس تذمرا داخل جسمه الحزبي والحركي من الحالة التي وصلت إليها الأوضاع، ومن انحراف النظام عن مساره وعن الشعارات التي رفعها منذ الانقلاب العسكري الذي خططته ونفذته الجبهة القومية الإسلامية وأطاحت به النظام الديمقراطي المنتخب لتفرض نظاما قهريا استبداديا. فالنظام يواجه اليوم أزمة لا ينكرها عاقل، وهي أزمة صنعت داخليا وبأيدي قياداته، مهما حاول البعض تصويرها على أنها مؤامرة خارجية وزعم أن المشاركين فيها محرضون و«شذاذ آفاق». لقد واجه النظام في محطات عديدة من حكمه حركات احتجاجية أو محاولات للإطاحة به، لكن الأزمة الراهنة ربما تعد الأخطر لأنها تأتي في ظل أزمة اقتصادية تسير نحو الأسوأ، وفي الوقت الذي يرى السودانيون الثورات العربية تطيح أربعة رؤساء وتوشك أن تطيح بالخامس مما يعيد إلى ذاكرتهم تاريخ ثورتين شعبيتين في تاريخهم الأولى عام 1964 والثانية عام 1985.

المفارقة أن البشير كان قد تحدى أكثر من مرة بأن من يريد إسقاط الحكومة عليه أن يجرب إسقاطها في الشارع إن كان يقدر على ذلك، واعتبر الخروج على نظامه أمرا مستحيلا عندما قال في خطاب ألقاه في أواخر عام 2010 إن من يريد إسقاط الحكومة «يجرب يلحس كوعه»، لذلك رد عليه المشاركون في الاحتجاجات الأخيرة بأن أطلقوا على أحد أيام احتجاجاتهم «جمعة لحس الكوع»، وعلى يوم آخر اسم «جمعة شذاذ الآفاق» مستعيرين جملة أخرى من خطاباته الحافلة بلغة التحدي والاستخفاف. وعلى الرغم من إجراءات القمع التي واجهت بها الحكومة المظاهرات، فإنها لم تتوقف ودخلت الآن شهرها الثاني، مما يثبت أن هذه الأزمة مختلفة وربما تشكل أخطر التحديات للنظام، إن لم تطح به، والمؤشرات على ذلك كثيرة.

فالحكومة بعدما أنكرت منذ عام أنها ستواجه أي صعوبات بعد انفصال الجنوب وفقدان أكثر من خمسة وسبعين في المائة من عائدات النفط، عادت اليوم لتلقي المسؤولية عن الأزمة الاقتصادية على الانفصال ولتعترف على لسان البشير بأن الدواء سيكون مرا. والأرقام الحكومية تؤكد أن العجز في الميزانية يعادل مليارين وأربعمائة مليون دولار، وأن الفجوة مرشحة للاتساع رغم إجراءات التقشف التي فرضت أخيرا وشملت رفع الدعم عن الوقود، وزيادة الضرائب على عدد من المنتجات والسلع الاستهلاكية مما أدى إلى زيادة الأسعار ورفع نسبة التضخم إلى 37 في المائة مرشحة للزيادة أيضا. فالحكومة ليس لديها موارد تعوض بها مداخيل النفط الذي فقدته مع انفصال الجنوب، كما أن سياساتها زادت الأزمة سوءا، إذ إن أجواء التوتر والتصعيد دفعت الجنوب لوقف صادراته النفطية مما جعل الشمال يخسر حتى العائدات التي كان يمكن أن يحصل عليها جراء عبور صادرات النفط الجنوبي في أنابيب الشمال. زد على ذلك أن الشمال يواجه اليوم تبعات ثلاث حروب ممتدة من دارفور وجنوب كردفان إلى النيل الأزرق، وليس في الأفق ما يدل على انفراج، بل إن الأوضاع مرشحة أيضا لمزيد من التدهور في هذه الجبهات أيضا، مع كل ما يعنيه ذلك بالنسبة لحكومة تذهب نسبة ثمانين في المائة من ميزانيتها إلى المخصصات الأمنية والعسكرية.

البشير محق بلا شك في قوله إن صيف السودان حار و«مولع نار»، ولكن السؤال هو من سيكتوي به، أو من ستشويه ناره؟

[email protected]