ذروة الثقافة الأمنية

TT

الأمن، أهم الأشياء في حياة الأفراد أو الجماعات. إلا أنه ليس كل شيء، ولا هو كل الأهميات. الدول تقوم على أولوية الأمن، لكنها لا تغفل أولويات كثيرة أخرى: الكرامة البشرية، والكفاية، والتقدم، وصيانة مستقبل الشعوب. النظام السوري عمل من أجل شيء واحد هو الأمن، جعل الناس تخاف من النوم في الليل والصحو في الصباح، وكان يضحك ساخرا من كثرة ما يخافون. وفي سوريا وحدها، من دون جميع دول العالم، كانت تقوم على مداخل المدن أكواخ خشبية كمراكز للمخابرات، وكان على كل سوري أن يعرف أن «الأخ الأكبر» يراقبه بعين من صدأ وحديد، ونقل هذا الجو إلى لبنان، وعندما سلم الضابط رستم غزالي مركزا وسط بيروت، سارع إلى دهن جدرانه لدى مغادرة الجيش السوري، لأنها كانت ملطخة بدماء الرجال وصراخ النساء.

فات النظام السوري أن على الحكم أن يلتفت إلى أشياء أخرى كالعيش والحياة، ألا تكون دولة من 20 مليونا بلا بنوك، وعندما يصاب وزير خارجيتها السابق (فاروق الشرع) ينقل إلى المستشفى الأميركي في بيروت، ومعظم أطباء الرئيس الراحل حافظ الأسد كانوا لبنانيين، بعدما كان اللبنانيون في الماضي يأتون إلى جامعة دمشق لدراسة الطب والحقوق.

لكن الأمن كان ناجحا حقا؛ كبار الرؤوس تطأطأ أمام صغار الرتب والخلق. العائلات العريقة تطلب السترة أمام العائلات الحديثة وتتودد إليها. الزراعة متخلفة في بلد من أهم البلدان الزراعية. التجنيد إجباري، أما التعليم فلا. كبار الصحافيين السوريين مشردون، والحزبيون يصدرون نشرات عن الانضباط الحزبي، والأمن مستتب وشبه مغلق.

لكن كل شيء آخر كان نافذة تتسرب منها الشكوى والملل واليأس، وكان على السوري أن يخاف من «الفروع» على مدى البلاد. وأن يرتعد – ولو كان صديقا – من الرموز، فالذين كان يستدعيهم آصف شوكت، كانوا يترحمون على أنفسهم ويذهبون. أمس، في دمشق، تناثرت صورة الأمن وانتقل الخوف من الناس إلى المقار، لحظة واحدة وإذا إمبراطورية الأمن تتهاوى. وزير الدفاع الاسمي الاحتفالي بكل ترصيعه وألوانه يهوي، هو ووزير الدفاع الحقيقي، نائبه، ووزير الداخلية الذي طالما سخر، بما توافر له من ظرف، من إشاعات قتله.

لم يكن أحد يتخيل طوال سنين أن الأمن في سوريا كان يمكن أن يصاب بنحو 17 ألف قتيل وآصف شوكت. فالأمن كان إلى الأبد والرئيس إلى الأبد، أما سوريا، بتاريخها وأهلها، فلم تكن سوى «سوريا الأسد»، وإلى الأبد أيضا. تقبل الناس كل شيء إلا العجرفة والغرور، وتؤمن بإله أزلي واحد. تفجير دمشق أمس كان مشهدا دراماتيكيا من المشاهد التي تلتصق بجدار التاريخ كالدماء التي تهرق بسهولة، فإذا بها، برغم كل شيء، هي أيضا دماء قابلة للإهراق.