تركيا تمدد لقواتها في لبنان

TT

من المستبعد أن يكون أحمد داود أوغلو لم يسمع بأعمال التفجير والقتل الكثيرة التي استهدفت القوات الدولية العاملة في لبنان، وكان أهمها وأكثرها إيلاما الهجمات التي نفذت عام 1983 ضد القوات الأميركية والفرنسية في جنوب بيروت.

وسائل الإعلام العالمية تتناقل صور ومشاهد الدمار والعشرات من النعوش التي عادت إلى بلادها محملة، بعدما سقطت في فخ المصيدة اللبنانية، والمنفذون يحتفلون بإنجازهم هذا الذي نقل سياسات الدولتين في بلاد الأرز إلى العناية الفائقة لسنوات طويلة.

في الفترة التي تتحدث خلالها كثير من الكتابات والتحليلات عن تراجع نظرية تصفير المشكلات التركية وتدهور علاقات أنقرة مع كثير من دول المنطقة، قررت حكومة رجب طيب أردوغان، على الرغم من كل ما يعصف من أزمات محيطة، التمديد للمرة السادسة لقواتها العاملة في جنوب لبنان.

كان من المفترض أن تكتب هذه المقالة قبل أكثر من شهر، وكان من المنتظر أيضا أن يكون عنوانها «ألم يحن وقت استدعاء القوات؟»، لكنني اخترت التأجيل، واختارت حكومة رجب طيب أردوغان أن يكون قرارها التحرك بما تمليه عليها حساباتها وطريقة تعاملها مع القضايا الحساسة من هذا النوع، دون التوقف مطولا عند تحذيرات وانتقادات واقتراحات تقدمها المعارضة أو وسائل الإعلام التركية والأجنبية أو حتى بعض الأصوات المتخوفة داخل القيادة السياسية نفسها.

أنقرة، على الرغم من كل المخاطر المحدقة وإدراكها لقدرة البعض على مفاجأتها وتعريض المكعبات التي تشيدها بصبر وحذر في السنوات الأخيرة وفي كل المناطق اللبنانية إلى التهديد والانهيار، يبدو أنها اختارت الاستجابة لطلب الحكومة اللبنانية وعدم إرسال سفن العودة والمغادرة بهذه الطريقة حتى لا توصف بشريك الأفراح والمناسبات السارة، وأول من يغادر بيت العريس عند التأزم وتكاثر المشكلات.

أنقرة تعرف أن بناء السلام في جنوب لبنان قضية في غاية الصعوبة إذا لم تحسم مسألة الصراع العربي - الإسرائيلي، وتعرف أنها تغامر، خصوصا أن البعض يهدد بتحويل قواتها إلى «رهائن»، مقابل «المحتجزين اللبنانيين في سوريا»، بعد عدم تقدم وساطتها حتى الآن.

كما أن حكومة أردوغان تعرف أن تباين المواقف بينها وبين بعض القوى المحلية اللبنانية في الموضوع السوري قد يتحول إلى تصفية حسابات مع سياساتها هذه في جنوب لبنان، وهي ليست المرة الأولى والأخيرة في مسائل من هذا النوع. وتدرك جيدا أن حلفاء دمشق في لبنان لن يترددوا في فك كل تعهدات والتزامات الحكومة اللبنانية الإقليمية والدولية، ومع ذلك يبدو أنها بخطوتها المفاجئة هذه لا تريد أن تمنح النظام السوري الفرصة التي يريدها، العزف على وتر استدعاء القوات التركية، على الرغم من معرفتها بحساسية المعادلات الداخلية في لبنان ورقعة الرمال المتحركة الواسعة هناك.

قبل 6 سنوات، كان مايسترو معارضة إرسال القوات إلى لبنان عبارة عن مجموعة تضم المعارضة السياسية التركية وأصواتا في الدياسبورا الأرمنية وبعض الأقلام التي يقلقها التمدد التركي وهذا الصعود الذي يتعارض مع حسابات ومصالح قوى إقليمية منافسة. لكن المشهد يختلف كليا اليوم؛ المعادلات والحسابات تتقلب في كل ساعة، ولا أحد يريد الرقص على بقعة الثلج هذه دون ضمانات وتدابير أمنية كافية. ومع ذلك فحكومة أردوغان مضت في المغامرة.

داود أوغلو ردد أكثر من مرة أن التحرك التركي في لبنان ينبع من الرغبة في تحسين العلاقات الثنائية وتعزيزها وفتح صفحة جديدة في تاريخ التعاون، وأن تركيا ترفض سياسات تصفية الحسابات الإقليمية على الساحة اللبنانية. لكن الهم التركي الأول اليوم يبقى الخروج من الورطة السورية بأقل الخسائر والأضرار، فالخارجية التركية تعرف أنه كلما اشتدت الضغوط على النظام، زاد من عمليات التحرش بها في الداخل والخارج.

لا يجوز قراءة القرار التركي الأخير على طريقة أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم، فأنقرة تعرف عدد التجارب القاسية من هذا النوع، لكن يبدو أنها متمسكة بحماية خطوط شبكة العلاقات الواسعة التي أقامتها مع كثير من شرائح المجتمع اللبناني في الأعوام الأخيرة، وهي مصرة على أن تكون آخر من يغادر القلعة إذا ما اضطرت إلى ذلك.

زيارة داود أوغلو الأخيرة إلى لبنان لدعم عملية الإصلاح والبناء والتحضير للمؤتمر العالمي للحوار بين الأديان والحضارات، الذي تعد تركيا لتنظيمه، لا تقل أهمية عن مهمة أكثر من ألف جندي في إنجاز المشاريع الإنمائية التي تنفذ بالتعاون مع مؤسسة «تيكا» في القرى الجنوبية.

كل ما نتمناه أن تنجز المهمة بنجاح، ويعود الجنود سالمين إلى وطنهم، وأن لا ندخل في نقاش آخر حول قدرات أصابع وأدوات إسرائيل في لبنان، التي تتحرك لتوتير علاقات لبنان بجيرانه، وأن لا يقال لنا إن إسرائيل تريد استخدام الساحة اللبنانية لتصفية حساباتها هي الأخرى مع حكومة أردوغان التي أغضبتها في السنوات الأخيرة.

أكثر من لاعب إقليمي ودولي جاهز لتأدية خدمة تعريض أمن وسلامة الجنود الأتراك في لبنان للخطر، وقرار الحكومة التركية هذا قد يكون صائبا أخلاقيا واستراتيجيا، لكنه قد يكون مكلفا بشريا وسياسيا.