الاعتصامات المزدهرة في لبنان

TT

هل بلغ شغف اللبنانيين بالسياسة وصراعات السياسيين على «قالب الجبنة» في بلدهم حد إهمال الرؤية الواقعية لوضع بلادهم الاجتماعي؟

أي مراقب من بعد لتحولات الوضع الاجتماعي في لبنان لا بد أن تقلقه ظاهرة الضيق المعيشي التي تعاني منها شريحة وافرة من اللبنانيين قد تكون الشريحة الأوسع في مجتمع اليوم.

في كل أسبوع تقريبا تعلن نقابة ما الإضراب أو تدعو فئات شعبية أخرى إلى اعتصامات استنكارا للأوضاع المعيشية المتردية.. فيما تبدو الدولة اللبنانية، العاجزة عن تحقيق إنجاز عادي مثل تأمين التيار الكهربائي لكل اللبنانيين، أكثر عجزا عن مواجهة الملف المعيشي بحلول مجدية.

حالة المخاض السياسي التي يمر بها العالم العربي حاليا، وتداعياتها المتوقعة على الساحة اللبنانية، قد تبرر تقديم المسؤولين اللبنانيين تطورات الشأن السياسي في بلدهم على أي شأن آخر. ولكن حالة التدهور الاجتماعي المتفاقمة وتوالي الاعتصامات المطلبية إلى حد دعوة موظفي القطاع العام - أي موظفي الدولة - إلى الإضراب العام والاعتصام أمام مراكز الإدارات العامة (احتجاجا على عدم إقرار الحكومة السلسلة الجديدة لرتبهم ورواتبهم)، مؤشر على أن المرحلة المقبلة على لبنان لن تكون مرحلة «ربيع عربي» سياسي، بل ربيع اجتماعي معيشي.

قد يتميز المواطن اللبناني العادي عن أشقائه العرب بحسه الاجتماعي الأكثر حضورا في حياته اليومية مما هو في حياتهم. وقد تعود هذه الميزة إلى واقعه الاجتماعي الأكثر تطلبا، من جهة، والأكثر انفتاحا، من جهة أخرى، على التيارات الفكرية الخارجية من المجتمعات العربية الرعوية الطابع والمحافظة تقليديا، فلا غرابة أن يكون لبنان مهد أول ثورة اجتماعية في التاريخ العربي الحديث - ثورة الفلاحين التي قادها طانيوس شاهين في القرن التاسع عشر.

ولكن المقلق في لبنان أن الميزة الأخرى التي يتفوق فيها على دول المحيط العربي هي ظاهرة «التطييف» التي تطغى، في نهاية المطاف، على أي حراك شعبي، اجتماعيا كان أم مطلبيا، فكما أحبطت المواجهات الطائفية المارونية - الدرزية ثورة طانيوس شاهين عام 1860، يطوق شبح الفتنة الطائفية اليوم قاعدة الحراك المطلبي ويكاد أن يخنقه في المهد.

من هنا دقة تداخل الشأنين الاجتماعي والسياسي في لبنان وضرورة فك أي ارتباط بينهما في وقت لا تزال فيه انتفاضة «الربيع العربي» تعيش مخاضا عسيرا.

وعلى الرغم من أن اللبنانيين درجوا على الدعوة إلى تغيير حكومي كلما واجهوا مأزقا داخليا أو خارجيا مستعصيا، فإن دقة وضعهم الاجتماعي باتت تستوجب إجراء أكثر جدية من مجرد تغيير الوجوه الحكومية، علما بأن التجارب علمت اللبنانيين أن أي حكومة ترحل عن سراي بيروت غالبا ما تخلفها حكومة أسوأ.

لذلك، وقبل أن يطغى العامل الطائفي على العامل المعيشي في أزمة لبنان الاجتماعية ويعقدها، وقبل أن تتحول الحركات المطلبية إلى عامل تهديد جديد لأمن لبنان واستقراره، بات مطلوبا مناقشة وضعه الاجتماعي بالعمق والجدية اللذين تفرضهما دقة هذا الوضع. وكي لا يذهب هذا المطلب ضحية تغيير حكومي تتحكم فيه الاعتبارات السياسية والميليشيوية، فقد يكون من المستحسن إدراج مستقبل لبنان الاقتصادي، ككل، على جدول أعمال أي مؤتمر حوار وطني مقبل.

إذا كانت مناقشة مستقبل سلاح حزب الله ضرورة وطنية للتفاهم على قواعد استراتيجية لبنان الدفاعية، فإن التفاهم على «خطة خماسية» تحدد استراتيجية لبنان الاجتماعية ضرورة لا تقل عنها أهمية لمستقبل لبنان، خصوصا أن لبنان مرشح اليوم لدخول نادي الدول المنتجة للنفط والغاز... وأضعف الإيمان أن يطمئن أبناؤه منذ الآن إلى أن عائدات ثروتهم النفطية المرتقبة سوف تشمل كل شرائحهم الاجتماعية، وليس فقط المحظوظين سياسيا بينهم.