الموت الرحيم والوفاة الجيدة.. إلى أين يتجه الطب؟

TT

ماذا تمثل وفاة المريض بالنسبة للوسط الطبي؟ سؤال «فضفاض» جدا، وليس لدى الأوساط الطبية لا إجابة واحدة محددة ولا إجابات متعددة «عائمة». وطرح السؤال بهذه الصيغة «الفضفاضة» ضروري، والإجابة عليه بإجابات متعددة، ولو «عائمة»، أيضا ضروري.

بداية، ما مسؤولية الطب تجاه حياة المريض؟ هل المطلوب من الرعاية الطبية أن تمنع وقوع وفاة المريض أيا كان مرضه، أم فقط أولئك المصابين بأمراض معينة دون أخرى، أم أن المطلوب فقط هو أن لا تقع وفاة المريض بسبب مرتبط بتقديم الرعاية الطبية، أي نتيجة لخطأ طبي أو خلال الإقامة بالمستشفى أو أثناء إجراء العمليات الجراحية أو الفحوص التشخيصية أو نتيجة لوصف وإعطاء أدوية معينة أو غيرها من الأسباب التي من المحتمل أن تتسبب بالوفاة؟

دعونا نعيد طرح السؤال بطريقة أخرى، ماذا يقول الطبيب حقيقة لنفسه وهو يعاين أو يعالج مريضا مصابا بأحد الأمراض التي من المتفق عليه علميا ومشاهدة أنها قد، أو لا محالة، ستهدد سلامة الحياة؟ ومع التسليم بأنه ليس مطلوبا من الأطباء «شفاء» المريض وإزالة المرض عنه بالكلية، ومع التسليم بأن الآجال مقدرة، هل يبقى لنا فقط أننا كأطباء «نحاول» ووفق ما هو «متوفر» من إمكانات طبية، ووفق ما توصل إليه علم الطب، أن نقوم بمعالجة الأمراض بوضع ما يتوفر لدينا من إمكانات طبية ومن طاقات متخصصة في علم الطب ومن جهود بشرية مساندة في المستشفيات، أن نضع هذا كله في صف الجسم وأجهزته خلال مراحل المعركة بين الجسم والمرض، ومن ثم انتظار النتيجة؟ إذا كان هذا بالعموم يصف بطريقة واقعية وشاملة مهمتنا الطبية، إذن فما علاقتنا ومسؤوليتنا المباشرة إزاء حصول وفاة المريض؟

لا إجابات واضحة ولا إجابات مقنعة ولا إجابات متفق عليها، والسبب من الناحية الطبية أن الطب بالأصل منشؤه وأصل قيام كيانه وحافز تطوره هو محاولة منع وفاة المريض بسبب المرض. وتحقيق هدف «منع حصول وفاة المريض بسبب المرض» لا يعني ولا علاقة له البتة بمنع حصول الوفاة نفسها لأسباب أخرى. ولتقريب الأمور، يذكر في هذا الشأن المثل القائل: «لو انتظر القاتل وقوع قضاء القدر، لمات المقتول بسبب لا علاقة له بفعل القتل». ولذا يظل الحافز هو السعي الطبي بلا كلل أو ملل نحو حماية أرواح الناس التي تهددها الأمراض.

إذن فما الذي على الناس والمرضى أن يتوقعوه منا؟

لننتقل إلى جانب آخر مرتبط بالموضوع نفسه ولا يزال في «معمعة» الجدل غير المنتهي من النواحي القانونية والأخلاقية والفلسفية والاجتماعية والطبية وغيرها، وهو اتخاذ القرار بتنفيذ وفاة المريض. ويتفرع عن هذا ظهور مصطلحات كـ«القتل أو الموت الرحيم» Euthanasia وهو مصطلح يعني وفق تعريف لجنة آداب مهنة الطب بمجلس اللوردات البريطاني: «إجراء تدخل متعمد مع الإعلان عن النية في إنهاء حياة، للتخفيف من معاناة مستعصية على الحل». ولذا هناك من يصنف القتل الرحيم بأنه إما طوعي voluntary أو غير طوعي non - voluntary أو قسري involuntary. وآخرون يصنفونه بأنه إما إيجابي Active euthanasia أو سلبي Passive euthanasia..

والقتل الرحيم السلبي، والممارس بشكل ملحوظ في المستشفيات، هو مثل إعلان الأطباء أن مريضا ما يوصي بأنه لن يعطى فرصة قيام الأطباء بعملية الإنعاش القلبي الرئوي DNR أو أنهم لن يقدموا له المضادات الحيوية أو غيرها من الأدوية الداعمة للقلب واللازم تقديمها لمريض يحتاجها بدرجة ماسة للحفاظ على حياته. بينما القتل الرحيم الإيجابي هو إعطاء المريض، عن سابق نية وقصد، حقنة من مواد تتسبب بالوفاة. وعليه، يكون النوع القسري والنوع الإيجابي جريمة قتل جنائية، أما الطوعي والسلبي فلا يعتبر كذلك.

وهناك من يضع أنواعا أخرى مثل الموت السعيد أو الموت الجيد أو الموت السهل أو الموت غير المؤلم، ولكل منها تعريفات. وفكرة أنواع الموت هذه اندرجت قديما كنوع رابع للأنواع الثلاث المعروفة لكيفية نهاية حياة الإنسان، وهي إما الوفاة الطبيعية أو القتل أو الانتحار.

ومصطلح «الموت الجيد» good death طرح مؤخرا مجددا ضمن دراسة الباحثين من مركز دانا أربر للأورام ومن جامعة هارفارد، والمنشورة في عدد 9 يوليو (تموز) الحالي من مجلة أرشيفات الطب الباطني الأميركية Archives of Internal Medicine.. وتناولت الدراسة مرضى الحالات المتقدمة والمستعصية من السرطان terminally ill cancer patients وتأثيرات المضي الطبي قدما في تقديم الرعاية الطبية والمعالجات المتطورة للحالات اليائسة منها أو محاولات إعطاء راحة لأولئك المرضى من معاناة الخضوع لمثل هذه المعالجات المتعبة والمرهقة للمرضى في الفترات الختامية من مراحل حياتهم. وتوصلوا من نتائج مراقبة المرضى وبتوثيق إفادات ذويهم أن قضاء الفترات تلك في أداء الصلوات والتواصل مع رجل الدين والإبقاء على تواصل جيد مع الأطباء هي أسباب لعيشهم الأيام المتبقية من حياتهم وهم في حالة جيدة وبنوعية حياتية يومية أفضل.

* استشاري باطنية وقلب

مركز الأمير سلطان للقلب في الرياض

[email protected]