إحراق شعرة دمشق

TT

كان حافظ الأسد يحرص، مهما بلغت التجاذبات الخارجية، أو المشاعر الداخلية، على إبقاء ميزان الحكم سويا.. أقام تحالفا مع إيران، لكنه احتفظ بعلاقة استراتيجية دائمة مع مصر والسعودية.. كان حلفه مع إيران عضويا، لكن علاقته مع القاهرة والرياض ظلت ثابتة. وفي الداخل أبعد، أو ألغى، العائلات السنية التقليدية، لكنه استبدل بها قيادات سنية ومناطقية مقابلة؛ فرئيس الأركان، حكمت الشهابي، كان الرجل القوي بعده مباشرة، ونائب الرئيس عبد الحليم خدام كان أمين سره. وقال هنري كيسنجر لفرنسوا متيران، إن خدام هو ظل الأسد، ويتولى عنه قول الكلام المنفر، بينما يبقي هو لنفسه الابتسامة والدبلوماسية.

حتى مع أميركا، أبقى حافظ الأسد، على توازن الخصومة المعلنة أو التعاون المقنَّع، وطبق القاعدة نفسها مع حليفه السوفياتي، الذي استبقاه ورقة يلعبها ضد الأميركيين، إذا خطر لهم تقريبه من إسرائيل، أو إبعاده عن إيران.

داخل العائلة نفسها اعتمد حافظ الأسد على رفعت الأسد، ما دام لا يخلخل هيكل الحكم، فلما صار الشقيق عبئا على لعبة التوازن، اختار له أفضل المنافي الممكنة، ما بين باريس وماربيا، ومنع عليه الاقتراب من بئر العواصف التاريخية: دمشق.. فمن أول وأهم دروس هذه العاصمة ليس سرعة الوصول؛ بل طول البقاء. وقد شاهد حافظ الأسد بنفسه كيف كان الانقلابيون يدخلون من باب ويخرجون من آخر، وكيف كان المنقلبون يطلون من نافذة ويرمون من أخرى.

هذه دمشق.. كان حافظ الأسد يذكِّر نفسه كل صباح.. هذه دمشق، فتعلم كيف تقرؤها جيدا. إنها صاحبة الشعرة العجيبة المشهورة. وهكذا راح يصانعها، عارفا أنها أقدم عاصمة في التاريخ، ليس بسبب صلابتها فقط؛ بل بسبب ليونتها أيضا. السياسة مِكَرٍّ مِفَرٍّ وليست جلمود صخر.. وسرها، أن تعرف حدودها وحدود نفسك وحدود سواك، وليس أن تتجاهل حدودها، وأن تبالغ في حدودك، وأن تحتقر حدود سواك.

كان أول ما فعله بشار الأسد، وهو رئيس على سوريا في الرابعة والثلاثين، أنه ألقى محاضرة في التاريخ على أهل القمة العربية.. مع الشرح والحواشي.. ثم نفض من حوله العجزة من أمثال حكمت الشهابي وعبد الحليم خدام ومصطفى طلاس، وقرب منه الشبان مثل مناف طلاس، شبيه الممثل ألان ديلون، وأبرز الوجوه الجديدة في العهد الجديد. وفي غمرة الفرح، نسي الجميع قاعدة حافظ الأسد: هذه دمشق.

يخوض بشار الأسد معركة دمشق اليوم وحيدا.. احترقت الشعرة التي تركها له والده في وصيته. وابتسامة الدمشقية التي ولدت في لندن لم تعد مرئية وسط هذا الخراب النازل بالمدينة الصعبة. قصير، طريق الاعتداد.