الثاني لن ينقل ولن يحطم

TT

سوف ينقلون جثمان لينين من الساحة الحمراء، لن يقف المعجبون والفضوليون والشامتون في طوابير طويلة بعد اليوم، هو أيضا ربما مل عملية التحنيط المستمرة التي بدأها طبيب أرمني ماهر بعد وفاته، ثم تناقلتها أفراد عائلته من بعده، في إمكان فلاديمير إيليتش أن يتحدى القيصر، وأن ينعت خصومه بما شاء: «زبالة»، «لقطاء»، «قذرات»، «عواهر»، «أغبياء روسيا»، «عوانس تافهات».

لا يستطيع فلاديمير إيليتش أن يتحدى شريعة البقاء والديمومة، سوف ينقل إلى مكان بلا عرض، فيما يستمر بعض السياسيين العرب، خصوصا في لبنان، يستعيرون من تعابيره، ولو أنهم لم يستعيروا من أفكاره، فهي «لا تهضم بسهولة».

أعطى لينين إلى الروس ستالين، وعندما حذره رفاقه من ترقية ستالين بسبب ميوله العنيفة قال: «هذا هو تماما الرجل المطلوب»، وعندما اندلعت الثورة قال جملته الشهيرة: «لا ثورة من دون فرقة إعدام بالرصاص»، حفظ اليمينيون واليساريون على السواء هذه الجملة النبيلة والمباركة، وتقيد بها فيدل كاسترو.

ثمة روسي لن ينقل من ساحته ولا مكانه، هو أيضا كان ثوريا تآمر مع «الديسمبريين» (جماعة ديسمبر) على خلع القيصر، لكن القيصر جاء به إلى القصر وأعطاه هذا المنصب: أن يكون الرقيب الشخصي على أعمال ألكسندر بوشكين.

رغم اللجام الذهبي الذي شد حول عنقه، ظل ألكسندر بوشكين أعظم شعراء روسيا عبر العصور، قتل وهو في الثامنة والثلاثين، ولا تزال روسيا تحفظه وتردده وتتغنى به، مهما تغير لون العلم أو لون الساحات أو أسماء المدن، سوف تبقى ساحة بوشكين ساحة الروس جميعا.

قلب خلفاء ستالين قبره فوقه، ومنعوا اسمه من الذكر حتى في سجل الوفيات، وعندما انهار الاتحاد السوفياتي أسقطت جميع التماثيل الباردة في جميع الساحات، ولا يزال تمثال يوفسكي يدغدغ الطيور في البرد، ويغني للأرض والوطن والكرامة والإنسان.

غير بوشكين قواعد اللغة الروسية وأدخلها عالم البساطة والجمال، وبهذه اللغة سوف يكتب من بعده تولستوي ودوستويفسكي وتشيخوف ونابوكوف وسواهم، وعلّم الروس أن يفخروا بأدبائهم وتاريخهم، منذ أن ظهرت قصيدته الأولى وهو في الثانية عشرة من العمر، وفي أقل من عقدين ملأ التراث الروسي شعرا ونثرا وروايات. وأذكر دائما مجموعة خطب لينين التي اشتريتها من المركز السوفياتي في بيروت، إلا أنني لا أتذكر عددها، كلمات غاضبة لم تدخل معه التاريخ ولم تعش من بعده إلا في دراسات مفوضية الحزب.

وعرض جثمان القذافي على حجر في مسلخ، ولا ندري ما حدث لكتابه وخطابه، خصوصا للدراسات الكبرى التي صدرت عن المؤتمرات التي عقدت لدراسة المناحي الفكرية في «الكتاب الأخضر».

لن ينقلوا ألكسندر بوشكين، سوف تظل الطيور تأنس إليه في الشتاء، ويهدل الحمام شيئا من حبه للأرض والإنسان.