مطارحة في «فلسفة التوبة».. وسعة رحمة التواب

TT

عبد الله بن المبارك، والفضيل بن عياض من أعلام الهدى والتقى الذين يقتدى بهم.. وهذان الرجلان الصالحان: استقاما بعد أن لم يكونا كذلك، أي استقاما بعد فترة انحراف وإثم من حياتهما.

علامَ يدل ذلك؟

يدل - أولا - على أن الإنسان مهما كبا وسقط، بل مهما أسرف على نفسه في الذنوب والخطايا: يمكن أن ينهض ويغتسل ويتطهر فيحيا - من ثم - حياة ملؤها الطهر والاستقامة والضياء والسمو.

ويدل - ثانيا - على أن الله الرحمن الرحيم والبر الودود الغفار التواب، لا يغلق أبوابه دون المخطئين المسرفين على أنفسهم، بل يفتحها ويهتف بالمخطئ هتاف رحمة وحفز وتشجيع: «يا بن آدم: قم إليّ، أمش إليك. وامش إليّ أهرول إليك».. هكذا في حنان ولطف وترغيب وتحضيض.

ويدل - ثالثا - على أنه لا يجوز - البتة - أن يتعجل أحد من الناس - داعية أو غيره - فيحكم على مصائر الناس بالبوار والخسران لمجرد أن رأى منهم أو فيهم خطأ أو انحرافا. فهذا النوع من التعجل دليل على قسوة القلب، وعلى «التألي» على الله، كما أنه دليل على الجهل بطبيعة الإنسان من حيث إنه خطّاء، لا ينفك عن خطئه، ولكنه من المستطاع أن يتوب.

ويدل - رابعا - على أن العبرة بـ«الخواتيم». فكم من مسرف على نفسه في الآثام رجع إلى ربه فتاب وأناب وتطهر وسما.. ولئن ضربنا - في مطلع المقال - المثل بابن المبارك وابن عياض، فإن مساحة الاستقامة بعد انحراف اتسعت لألوف الناس من قبلهم ومن بعدهم.

إن العقبة الوحيدة في سلوك الطريق الحق إلى الله - جل ثناؤه - هي «الشرك»: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ».. ومن الدلالات الساطعة القاطعة، ها هنا، أن من يتوب من الشرك يغفر له. فنفي القرآن مختص بالذين لا يتوبون من الشرك، وإلا لما كان هناك معنى ولا غاية لدعوة الأنبياء أقوامهم للتوبة من الشرك بـ«التوحيد الخالص».. ولقد كان الصحابة مشركين، قبل أن يصدع النبي (صلى الله عليه وسلم) بدعوة التوحيد الخالص.. ولقد تاب الصحابة من الشرك بالتوحيد فأصبحوا خير أمة أخرجت للناس.. وعندما هم عمرو بن العاص بمبايعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أشترط أن يغفر لي ما قد سلف. فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ألا تعلم يا عمرو، أن الإسلام يهدم ما قبله؟!».. ومن معاني الحديث: أن الإيمان بالله، وبرسالة الإسلام يمحو ما كان قبله من جرائم، بما في ذلك جريمة الشرك.

وفي الإسلام «منهج كامل» في هذه القضية، أي منهج فتح أبواب التوبة وتوسيع فرصها: التوبة من الشرك فما دونه.. وهذا المنهج مؤصل بنصوص مستفيضة نثبت منها، الآن:

1) بعد أن ذكر القرآن أن هناك من يعتقد أو يزعم أن لله ولدا، حض القرآن القائلين بهذه الفرية على التوبة والاستغفار: «أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».

2) «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ».

3) «وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ».. ومن مضامين هذه الآية: أن الله العفو الرحيم قد أتاح الفرصة لعبّاد العجل لكي يتوبوا من هذه العبادة الجاهلة الباطلة، على الرغم من جسامتها وفظاعتها وحماقتها.

4) فتح الله باب التوبة لشرار المنافقين فقال: «إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا».

لماذا كل هذا الهتاف الإلهي الحبيب الرطيب الودود بالإنسان لكي يتطهر من الذنوب فيتوب فيغمره الله برحمته ووده؟

لأن الله يتجلى على عباده باسمه الرحمن الرحيم حيث إن الصفة الغالبة على أسمائه وصفاته - تقدس في علاه - هي «الرحمة».

ومما تقرأ في كتابه المجيد الذي يعرفنا بأسمائه وصفاته: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»، كتبها هو بنفسه على نفسه، تباركت أسماؤه، فضلا منه ومحض رحمة، فهو سبحانه سابق بالفضل قبل وجود الإنسان، وقبل أن يتوجه الإنسان بالسؤال إلى ربه. فالله العلي العظيم لا مكره له.. كتب الرحمة على نفسه، وتفضل فأخبرنا بذلك لكي نمتلئ يقينا بأنه الرحمن الرحيم الذي وسعت رحمته كل شيء، وأنه كتب في كتاب عنده على العرش: «إن رحمتي سبقت غضبي»، كما جاء في الحديث الصحيح، وأن من أسمائه الحسنى «التواب»، أي كثير التوب على عباده العصاة أو المخطئين أو المسرفين على أنفسهم في الذنوب والآثام.

ويتعين أن يدرك الناس - ولا سيما الدعاة والوعاظ والموجهين - أن رحمة الله بالإنسان هي «الأصل»، ولذا كان رجحان أسماء الرحمن، الغفور، الرحيم على غيرها في القرآن. فقد ذكر اسم الرحمن 57 مرة، وذكر الغفور 91، وذكر اسم الرحيم 123 مرة.

نعم.. إن رحمة الله بالناس هي الأصل. فإيجاد الناس باستعداد للتعلم والمعرفة، رحمة.. وتسخير ما في السموات والأرض لهم، رحمة.. وإمدادهم بما يحببهم إليه، رحمة.. وإرسال الرسل لهدايتهم، رحمة.. وتحريرهم من الكهان والوسطاء للاتصال به مباشرة، رحمة.. وتزويدهم بالكرامة الأصلية، رحمة.. وتحريرهم من كل ما يمس هذه الكرامة من طغيان واستبداد وظلم، رحمة.

أتريدون مزيدا من الدلائل على فيوض رحمة الله سبحانه.. ألف سبحانه؟

في ما يلي منظومة من الأحاديث القدسية:

أ) يقول الله تعالى: «أنا عند ظن عبدي بي. وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب إلى شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلى ذراعا تقربت إليه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».

سبحانك اللهم.. أتهرول برحمتك إلى الإنسان، حبا له، وعطفا عليه، ورحمة به؟!.. آمنت بأنك الله الواحد الأحد الفرد الصمد الرحمن الرحيم الرؤوف الودود اللطيف.

ب) ويقول سبحانه: «يا بن آدم: قم إليّ أمش إليك.. وامش إليّ أهرول إليك».

إن الإنسان مهما أخطأ وغرف في الآثام، وأسرف على نفسه فيها، فإن هناك «فرصة مفتوحة» دوما، وهي فرصة التوبة الصادقة إلى الله التواب الغفار الرحيم، وهي فرصة جعلها الله معراجا للذين عصوه وابتعدوا عنه، وكأنه يقول، سبحانه: مهما كانت هوة الحفرة التي وقعتم فيها، فإني أمدد يد رحمتي الواسعة لكم لكي تخرجوا من هذه الحفرة وتستأنفوا حياة جديدة نظيفة سعيدة هانئة مستبشرة تحت ظل رحمتي.

إننا نهدي هذه المقالة إلى المسلمين الذين باشروا صيام شهر رمضان، عازمين على التوبة النصوح، راجين الله أن يقبل صيامهم وتوبتهم.. ولئن وفقهم الله إلى ذلك كله، فليعلموا أن من شكر هذه النعمة، الرحمة بالمخطئين والعصاة، رحمة مقرونة بدلالتهم على الخير والاستقامة بلطف ورفق ورحمة.