ثقافة الآيديولوجية وآيديولوجية الثقافة

TT

أخفقت أكبر شركة للحراسة الخاصة وخدمات الأمن في توفير العدد المتفق عليه من الحراس والمرشدين المشرفين على الألعاب الأولمبية، فاضطرت الحكومة البريطانية إلى استدعاء الجيش للقيام بالمهمة على الرغم من التعاقد مع الشركة بما يساوي 500 مليون دولار.

البرلمان استدعى وزيرة الداخلية لشرح ما اعتبره النواب «إهمالا كبيرا في الإجراءات الأمنية»، واتهمت المعارضة والصحافة الحكومة والهيئة المشرفة على تنظيم الأولمبياد بإهدار المال العام.

اللجنة البرلمانية للشؤون الداخلية والأمن استدعت المدير التنفيذي للشركة للاستجواب في جلسة علنية بحضور الصحافة.

البرلمان المنتخب (مجلس العموم) هو أعلى سلطة في البلاد، فمن حق أي لجنة برلمانية استدعاء أي شخص للمثول أمامها، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بأموال الناخب.

ولم يحدث في التاريخ الحديث أن رفض شخص (من ضباط جيش، أو مديري بنوك، أو موظفي حكومة) استدعاء اللجنة البرلمانية. عند الرفض يذهب مسؤول الأمن (الحارس العام لأسلحة البرلمان Serjeant-at-Arms) أو أحد مساعديه بملابسه التي لم تتغير منذ القرن الـ18 حاملا سلاحه rapier (سيف المبارزات القصير) ليسوق الشخص المطلوب صاغرا.

التحليلات الصحافية وأسئلة أعضاء اللجنة المكونة من نواب من كل الأحزاب ركزت على إهدار المال وكيف تلاشى التفكير المنطقي أمام آيديولوجية الخصخصة، التي تعهد بمشاريع وأعمال هي تقليديا من مهام الدولة أو القطاع الحكومي إلى شركات قطاع خاص.

الشركة لديها عقود متعددة مع مصلحة السجون، وإدارة مراكز احتجاز المهاجرين غير الشرعيين التابعة لوكالة الحدود والموانئ والمطارات، وحكمداريات الأمن. الأمن في بريطانيا ليس وكالة مركزية تتبع وزارة الداخلية، على الرغم من أن الأخيرة تضع اللوائح العامة، لكن كل قوة تتبع المقاطعة أو المجلس المحلي، وحكمدار أمن الإقليم أو المدينة مسؤول أمام مجلس البلدية أو مجلس العمودية المنتخب، وتتعاقد الحكمدارية مع شركات الخدمات بشكل مستقل.

الشركة تقوم بنقل المساجين بين السجون أو إلى المحكمة أو إلى ديارهم (معظم المساجين يسمح لهم بقضاء إجازة يومين كل شهر مع الأسرة والعودة للسجن، إلا في حالات استثنائية خطيرة).

وتعاقدت هيئة إدارة الأولمبياد مع الشركة منذ عامين لتوفير عشرة آلاف مراقب وحارس ومرشد لتولي تفتيش الحقائب، واستخدام أجهزة أشعة «إكس» مثل المطارات لفحص الأمتعة وحفظ النظام، وإرشاد الزوار. أسبوعان فقط قبل بداية الأولمبياد، اكتشف المسؤولون عن الأمن في وزارة الداخلية أن الشركة لم تستطع توظيف الأعداد المطلوبة، واضطرت الحكومة إلى استدعاء قوات الجيش للقيام بالمهمة.

المعارضة العمالية والصحافة انتقدتا الحكومة التي أخضعت ثقافة الإدارة العملية لآيديولوجية السوق الحرة والقطاع الخاص، وهي آيديولوجية تأجير الخدمات كتنظيف الشوارع، وإدارة المرافق، والحراسة، وغيرها، إلى شركات قطاع خاص بدلا من عمال البلدية.

شركات القطاع الخاص تقدم مناقصات لتوفير الخدمات بتكلفة كلية أقل من ميزانية الهيئة الحكومية، لأنها ستدفع أجورا أقل للعاملين، كما أن ثقافة العمل في القطاع الخاص هي العمل الجاد بدلا من «تكية الميري» حسب التعبير المصري، لأن موظف الحكومة كثير المطالب، يعمل ساعات أقل، ويطلب علاوات، وبسبب صداع بسيط يحصل على إجازة مرضية.

لكن نقاد سياسة الخصخصة يجادلون بأن هناك خدمات ومهام لا يجب إخضاعها لموازنات الربح والخسارة، أو إحالتها لمقاولي القطاع الخاص خشية وقوع أضرار عامة أو تأتي بنتائج عكسية. فمثلا كشفت الصحافة الأسبوع الماضي أن شركات بريطانية لتصنيع أجهزة الكشف البحرية باعت للأرجنتين أنظمة متطورة قد تمكن بحريتها من كشف الغواصات، مما يشكل تهديدا للبحرية الملكية التي تعتمد على الغواصات في جنوب الأطلسي لحماية جزر الفولكلاند التي احتلتها الأرجنتين عام 1982، ودفعت البلاد ثمنا باهظا في الأرواح لتحريرها عام 1982، واليوم تهدد الأرجنتين بعدوان جديد عليها. وتطالب المعارضة الآن بتعديل القوانين لمنع الشركات البريطانية من بيع أسلحة ومعدات لبلدان قد تشكل تهديدا للمصالح البريطانية.

والمطلب يناقض فلسفة المحافظين (وهم الحزب الأكبر في الائتلاف الحكومي) من عدم فرض قيود على حرية التجارة والتصدير والاستيراد.

وعلى النقيض من ذلك، يواجه وزير المعارف (وهو صحافي سابق قبل اشتغاله بالسياسة، أي له خبرة مع المواطن العادي وحاجاته) معارضة شديدة، بل حرب شعواء من المعلمين والمعلمات، الذين يسيطر الفكر اليساري الاشتراكي على ثقافة إدارتهم لمناهج التعليم وأسلوب تدريس وتنشئة التلاميذ. فالوزير يقترح العودة إلى الأسلوب الكلاسيكي في التعليم الذي يدعم المتفوقين، ويحفز التلاميذ على الاستيعاب والصعود المرحلي (اليسار عمم تخفيض المستوى للجميع بحجة المساواة) وتدريس الشعر واللغة اللاتينية الضرورية لفهم قواعد اللغة.

كما خصص الوزير ميزانية لدعم مشاريع أولياء الأمور والمعلمين المتقاعدين لإنشاء مدارس مستقلة عن الوزارة والإدارات المحلية في حالة عجز الأخيرة عن توفير الفصول والإمكانات في المناطق المزدحمة بالسكان.

سيطرة الآيديولوجية اليسارية على ثقافة وفلسفة التعليم، مع نقص عدد المعلمين الرجال من صنف الجنتلمان الكلاسيكي في زمن غياب القدوة المثالية من حياة الصبيان (المعلمات، وأغلبهن يساريات، يسخرن من عبارات كـ«الرجل رب الأسرة»، أو «الأم المثالية»، ويمثلن الأغلبية الساحقة في المدارس الابتدائية والإعدادية) مع ارتفاع نسبة الطلاق وغياب الأب من حياة المراهقين؛ تسبب في مشاكل اجتماعية يرفض اليسار الاعتراف بوجودها.. فأغلب الشباب الذين قاموا بأعمال الحرق والنهب في مظاهرات شغب الصيف الماضي كانوا من أسر غاب الأب عنها، وفاشلين في الدراسة، أو من مدارس تعاني نقصا في المعلمين الرجال. كما أن سيطرة الآيديولوجية اليسارية على فلسفة التعليم أنهت ممارسات الألعاب الرياضية التنافسية كالمصارعة والسباقات التي يستهلك فيها المراهق طاقته ويتعلم التنافس الشريف، بروح رياضية. والنتيجة لجوء الشباب إلى تكوين عصابات كبديل عن الانتماء الأسري أو لفريق رياضي مدرسي.

نموذجان (لإحلال ثقافة الآيديولوجية بدلا من إخضاع الآيديولوجية للثقافة الملائمة) أسوقهما للمصريين حيث لا تزال آيديولوجية القطاع العام والاعتماد على الدولة من رغيف العيش حتى مسكن الزوجية تقضي على ثقافة المبادرات الفردية الضرورية لمجتمعات ما بعد التصنيع (القرن الـ12).

وقراءة في الصحف المصرية بعد نحو 18 شهرا من الثورة تجد المطالب التي تعكس ثقافة آيديولوجية ستينات القرن الماضي، مطالب النقابات والأفراد للرئيس بتعيين الخريجين، وتوفير مساكن، ومنح علاوات، ولا تجد مطالب مثلا بتعديل اللوائح المصرفية لإقراض المشاريع الصغيرة بفائدة منخفضة من أجل خلق فرص وإسراع دوران عجلة الإنتاج والاستهلاك كقاعدة للنمو الرأسمالي. فوظائف الدولة والقطاع العام عالة على الاقتصاد، وظائف لا تنتج سلعا أو خدمات للتصدير، بينما تؤدي إلى تضخم الاقتصاد المدعوم من دون أي زيادة في الدخل القومي.