حماري يفقد أعصابه وصبره وقدرته على التحمل

TT

موضوعي اليوم عن الحمير والحمورية. في نهاية ثلاثينات القرن الماضي أو نحو ذلك، كانت هناك جمعية من كبار المثقفين والحكماء، اتخذت الحمار رمزا لها بوصفه مثالا للحكمة والصبر والقدرة على التحمل. كان الأستاذ زكي طليمات، المخرج المسرحي الشهير، الذي أنشأ معهد الفنون المسرحية في مصر، وفي الكويت، ومشى بعدها يزرع فن المسرح في البلاد العربية، كان (رحمه الله) من أشهر أعضائها. كانت هناك رتب في هذه الجمعية تبدأ بلقب جحش، وإن لم تخني الذاكرة كانت أعلى رتبة هي الحمار الحصاوي. وعلى الرغم مما أعهده في نفسي من حكمة وصبر على المكاره، فإنني لم أتقدم لعضوية الجمعية بسبب السن، فقد كنت أصغر من حمار وأكبر من جحش.

والكاتب الوحيد في مصر الذي كان يمتلك حمارا افتراضيا، كان توفيق الحكيم، الذي أثرى الحياة الفكرية بحواره معه. لهذا الحمار عشرون حفيدا كان من نصيبي واحد منهم، عاش معي حتى الآن في مزرعتي بالقرب من القاهرة. كنت وما زلت أتعامل معه باحترام وبكل ما أملك من تهذيب بعد أن عزلته تماما عن ذلك المجتمع الذي يحتقر الحمير بشدة، وكأنها هي السبب في إصابته بالبلادة والعجز عن التفكير. كنت أحرص على أن يحضر معي كل الندوات الثقافية والسياسية، بل وحرصت على أن يشترك معي ومع أصدقائي في النقاش في الأوقات التي يزوروني فيها في مزرعتي.

لاحظت مع الأيام أن نهيقه فقد غلظته، وأن سلوكه أصبح يتسم بالرقة وأن أفكاره، وخاصة حول مستقبل المنطقة، كانت سديدة تماما، مثل أفكاري. كنت أحرص بالطبع على أن أكون معه في أي مكان لكي أتدخل لحمايته من البشر عندما يتطلب الأمر ذلك، والمرة الوحيدة التي خرج فيها بصحبة أحد عمال المزرعة لزيارة الطبيب البيطري جاءني بعدها ثائرا، وقال لي في عصبية: لماذا لم تقل لي إن الحمورية سبة؟ لماذا تركتني أعيش بوهم أنني أستحق الاحترام كبقية خلق الله من الحيوانات.. اليوم فقط عرفت أن اسمي عند البشر يعتبر شتيمة.. لن أقبل هذا الوضع.. لا بد أن أقوم بتغيير اسمي فورا.

قلت له: اهدأ يا عزيزي. إن تغيير الاسم مشكلة في مصر. لا بد أن تعلن عن ذلك في كل الجرائد المصرية الحكومية والخاصة وفي عشر محطات فضائية على الأقل؛ أن الحمار فلان قرر تغيير اسمه إلى اسم آخر، ثم تذكر هذا الاسم وتطلب ممن يعترض أن يتقدم باعتراضه خلال أسبوعين، ثم ترفع قضية وتمشي في كل مراحلها، وبعد أن يصدر حكم بات ونهائي مرورا بكل الطعون المتوقعة، تقوم بتسجيل اسمك الجديد في الشهر العقاري، ومرة أخرى تقوم بالظهور على صفحات الجرائد وفي الفضائيات وتتكلم عن اسمك الجديد. ترى ما هو؟ أي اسم اخترت؟

قال بكبرياء: سمكة، وسأخوض هذه المعركة القضائية الإعلامية، حتى لو كلفتني عمري.

تألمت من أجله، غير أني لم أحاول إثناءه عن عزمه، فقد كنت أدرك حجم الألم الذي يشعر به، الإنسان فقط هو الذي لا يتألم عندما يكتشف أنه حمار، أما الحمار فعندما يكتشف ذلك تستولي عليه حالة اكتئاب سوداوية قد تدفعه إلى الانتحار.

بصبر عظيم تمكن من اجتياز كل العقبات القانونية، بقيت خطوة واحدة هي تسجيل الحكم بالاسم الجديد في الشهر العقاري. وبهذه المناسبة المفرحة طلب مني أن أصحبه إلى هناك، فرحبت بذلك ولم أركبه بالطبع لأنه لم يعد حمارا، هو سمكة. قمنا بتسجيل الحكم في الشهر العقاري بلا عقبات ثم انطلقنا نحتفل بهذه المناسبة، أقرب مكان لنا كان مقهى القرود الشهير، لم نجد مكانا فجلسنا مع قرد عجوز إلى أن تخلو مائدة، قال القرد: اسمحوا لي أن أقدم نفسي.. أنا رئيس رابطة القرود. وقبل أن أرد عليه، قال: أنا أعرفك.. أنت أشهر من نار على علم، أنت أول وآخر كاتب في تاريخ المصريين يفصله اتحاد الكتاب لخروجه عن الإجماع. أنا أريد أن أتعرف على صديقك.

فقال الحمار: أنا سمكة.

فسأله القرد: تعرف تعوم يا سمكة؟

فرد الحمار: لأ.

فقال معقبا وهو يحتسي شرابه: تبقى حمار.

في تلك اللحظة حدث شيء غريب؛ لم يحدث في تاريخ الحمورية أن فقد حمار أعصابه إلى هذا الحد، بدأ جسمه كله يرتجف وبدأ ينهق نهيقا منكرا بالفعل، ثم رفس القرد رفسة قوية أطاحت به بعيدا، غير أن القرد تمكن من القفز فوق شجرة قريبة، في الوقت الذي أخذ الحمار يشتمه فيه بألفاظ جارحة: أقول لك أنا سمكة، فتقول لي أنت حمار؟! أيها القرد الوغد، انزل من على الشجرة لكي أربيك.

فقال القرد بثبات وصوت قوي واضح: وجودك لسنوات طويلة مع إنسان يعمل في حقل الثقافة الإنسانية أضاع حموريتك الأصيلة، وجعلك أقرب إلى البشر وثقافة البشر، كانت لديك مشكلة من اختراعك أنت. رفضت نفسك وجنسك وهويتك ففكرت مثل البشر المثقفين، أنت تكذب عندما تقول إنك تريد أن تتغير.. التغيير ينصب على الفعل وليس على الاسم، هذه مشكلة البشر وليست مشكلتك أنت.. البشر فقط يبحثون عن اسم جديد يفلتون به من حتمية القيام بالفعل، وبذلك ضاعت هويتهم، بل وحضارتهم، كل منهم يخترع اسما لكي «يخض» به من هم حوله، لكي يحصل على احترام لا يستحقه.. الكلمات تحولت إلى بدائل عن الأفعال، فكانت النتيجة ليست العجز فقط عن القيام بالفعل، بل عدم فهم ما يقوم به الآخرون من أفعال.. ماذا كان الخطأ وماذا كان مهينا في أن تكون حمارا؟ هل كنت تمساحا تحول إلى حمار؟ أنت حمار تنحدر من صلب أجداد من الحمير، فما هو المهين في ذلك.. والآن أنت تضربني لأني صارحتك بحقيقتك.

وهنا رد عليه الحمار في نهيق مرعب: لا، أنا أضربك لأنك قليل الأدب وتتدخل في شؤوني بغير وجه حق، ما لك أنت إذا كنت حمارا أو سمكة؟ أنا أقول إنني سمكة، والبينة على من ادعى، وهذه هي الأحكام النهائية التي حصلت عليها، والتي تثبت أنني لم أعد حمارا وأنني سمكة، أليست مقنعة لك بأنني سمكة؟

فقال القرد: ليس مهما أن تكون مقنعة لكل الناس وكل حمير الدنيا.. المهم هو هل هي مقنعة لك أنت؟

فقال الحمار: طبعا هي مقنعة لي.

فقال القرد بهدوء: تبقى حمار.

قال ذلك وقفز من فوق الشجرة إلى شجرة أخرى، ثم ابتعد عن الأنظار.