رمضان الفضيل.. مكاشفة للذات وتجديد للأمل

TT

يتطلع المسلمون في أصقاع الأرض إلى قدوم الشهر الفضيل، شهر رمضان المبارك. وبما أن لهذا الشهر العظيم، بقيمه ودلالاته وعبره الكثيرة، هيبة ومكانة لا تدانى، فإن هذه المناسبة ينبغي ألا تمر دون أن نستفيد منها لنراجع أنفسنا، ونحسن أوضاعنا، ونبذل ما نستطيع لتحقيق ما لم نتمكن منه منذ أمد طويل، مسترشدين بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُه وَالْمُؤْمِنُون وَسَتُرَدُّون إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ»، (سورة التوبة)، ولعل تزامن قدوم الشهر الكريم في صيف قائظ مع المتغيرات الحاصلة في عالمنا العربي بشكل خاص والعالم الإسلامي عامة، يجعلنا أكثر استعدادا لمراجعة الذات وتلمس الطريق، بشكل يختلف عن الماضي، وبما يرضى به الخالق العظيم.

واحتراما مني للعلماء الأجلاء في رؤيتهم وقدراتهم المعهودة على الحديث الفقهي عن رمضان، بما يحمله من قدسية وطاعة وتقوى وعبادات، ونسأل الله العلي القدير أن يتقبلها، وأن يعيد هذا الشهر الفضيل وقد تحسنت أحوالنا ويمن الله علينا بنعمة المحبة والإخاء والتواصل والتكافل لإدخال الفرحة في قلوب المحتاجين ورسم البسمة على شفاه الأطفال في الصومال وغيره من الشعوب الإسلامية المبتلاة بالفقر والنزاعات والكوارث.. أقول، إن هذه المناسبة العظيمة تدعوني إلى أن أتناول بعض الجوانب التي أرى أهمية للتذكير بها، بل أجد أن هذا الشهر المعظم يمكن أن يكون المناسبة الأفضل للمكاشفة والمحاسبة والدعوة للعمل الجاد والجماعي، الذي يعطي الأمل للمهمشين والمحتاجين، بل للأمة جمعاء.

لعل القارئ الكريم قد تابع نداءاتنا ومقترحاتنا منذ ما يزيد على عقدين من الزمان، لإصلاح أوضاعنا وبناء علاقات بين المسلمين تقوم على التآخي والتكامل والعمل المشترك لخدمة الجميع، فضلا عن الجهود التي بذلت، ولا نزال نعمل جاهدين لإظهار حقيقة ديننا الحنيف وقيمه ومبادئه السامية التي تجعل من الإنسان القيمة الأمثل والأعلى، ووجوب العمل للحفاظ على الكرامة الإنسانية التي أرادها الله لعباده في محكم كتابه العزيز: بسم الله الرحمن الرحيم «وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهم فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهم منَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهم عَلَى كَثِيرٍ ممَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا»، (سورة الإسراء).

يمر علينا شهر رمضان، وقد ازداد عدد الفقراء والمحتاجين في العالمين العربي والإسلامي، وازدادت الهوة بين الفقراء والأغنياء، وأرجو ألا أجانب الحقيقة بالقول إن الالتزام بين المسلمين قد أضحى أكثر ضعفا، وسمة يتسم بها المسلمون، بعد أن تنوعت الخلافات والنزاعات والصراعات المذهبية والطائفية. وعليه، فإن من المؤسف أن الحديث عن وحدة الكلمة والمصير، وفق ما أمرنا الله به ورسوله العظيم، لا يستقيم مع الواقع الذي نعيشه، مما يفرض علينا التفكير بالوسائل الكفيلة بتوحيد صفوف المسلمين وإعلاء شأنهم.

أستميح الجميع العذر لتناول أوضاعنا بهذا الأسلوب الذي قد يعتبره البعض تشاؤميا، وبالطبع فإن ذلك ليس واردا في توجهي وتفكيري. لقد كنت، ومنذ زمن بعيد، أؤمن بأن حل أي مشكلة يكمن في الإقرار بوجودها ومعرفة أسبابها لكي نتمكن من تحديد وسائل مواجهتها وحلها بشكل يرضي الله والضمير.

الحديث عن التحديات التي نواجهها يطول ويطول، ولكي لا نظل نتحدث فقط عن المشاكل دون أن نقدم الحلول لها، دعونا نتلمس معا بعض الأفكار التي يمكن أن تسهم في إصلاح أحوالنا.

لقد كرم الله هذه الأمة برسله وأنبيائه بما حملوه من كتب عظيمة لم تترك مجالا في الحياة إلا ونظمته.. ولعل عظمة الرسالات السماوية أنها فصلت الحقوق والواجبات لبني البشر، بهدف أن تستقيم الحياة وأن تؤسس على نحو يجعل قيمة الإنسان تستند إلى مساهمته ودوره في خدمة المجتمع، الذي عليه بالمقابل، واجب الإقرار بحقوق بني البشر في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية وتوفير الفرص المتساوية للجميع.

إنها دعوة في هذا الشهر العظيم للإخلاص لله، ونحن نؤدي عملنا وللرقابة الذاتية والتحلي بالأخلاق الحسنة، وأن يكون القول متسقا مع الفعل عملا بقوله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم «يا أَيُّهَا الَّذِين آمَنُوا لِمَ تَقُولُون مَا لا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتا عِندَ الله أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ» صدق الله العظيم (سورة الصف).

وفي ضوء عظمة الرسالات السماوية والحاجة الماسة للالتزام بها والتحلي بما ينبغي أن يكون عليه المسلم من تسامح وتعاون وأخوة، فإن صيام المسلمين أينما كانوا في وقت واحد ولشهر كامل، وبغض النظر عن مذاهبهم وتوجهاتهم، هو رسالة واضحة من الخالق العظيم بأن الأمة الإسلامية هي أمة واحدة موحدة يربطها رباط وثيق ابتداء من المشاركة الوجدانية والشعور بالتضامن الأخوي، وصولا إلى ترجمة مفهوم التكافل إلى واقع يسهم في تضييق الفوارق بين المسلمين فرادى ومجتمعات.

أليس حريا بنا، ونحن في هذا الشهر الفضيل، أن نحس بآلام الفقير الجائع الذي لا يجد قوت يومه ونشعر بمعاناة المسلمة التي تعجز أن تستر جسدها بقطعة قماش. فإذا كنا نحرص على أن نؤدي فريضة الصيام بفروضها الأساسية، علينا أن نتصور ما يعانيه هؤلاء طوال حياتهم وليس في هذا الشهر الفضيل فقط.

الحديث عن وحدة الأمة ومصيرها يجعلنا نتأمل الصراعات المذهبية والطائفية التي تنخر في جسد المسلمين.. فلو تبحرنا جيدا في حقيقة وجوهر الاختلافات بين المذاهب الإسلامية، لوجدنا أنها ليست ذات جوهر أو أساس، وليست من الأصول العامة للدين، وخاصة في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.. الأمر الذي يفرض على علمائنا الأجلاء وحكماء هذه الأمة أن يقولوا كلمتهم، وأن يقفوا بالمرصاد لكل من يسيء إلى ديننا الحنيف صورة وجوهرا.. من واجب علمائنا الأجلاء العمل بما آتاهم الله من مكانة وفكر وعلم لإصلاح ذات البين وتحقيق وحدة كلمة المسلمين.

لقد نادينا منذ أمد طويل لمأسسة الحوار بين أتباع المذاهب الإسلامية، وصولا لتوحيد الكلمة وإعطاء الصورة الحقيقية المشرقة لديننا الحنيف.. وحسبنا في ذلك أنه إذا كانت المبادئ الأساسية للديانات السماوية لا تختلف عن بعضها، فما بالنا عندما يتعلق الأمر بدين واحد هو الإسلام العظيم؟

إن ما نقوله هنا هو تجديد لنداء ما فتئنا نردده منذ أمد بعيد.. لقد آن الأوان للتوصل إلى تفاهم يستند إلى الكتاب والسنة للتقريب بين المذاهب. وإننا في منتدى الفكر العربي قد باشرنا ومنذ وقت ليس بالقصير، العمل مع نخبة من العلماء الأجلاء والمفكرين لتحقيق هذا الهدف، وقد كانت زيارتنا للأزهر الشريف قبل عدة أسابيع ولقاؤنا فضيلة الإمام الأكبر الشيخ الأستاذ الدكتور أحمد الطيب خطوة واعدة نأمل أن تستكمل مع زعماء المذاهب الإسلامية الذين يحرصون على وحدة كلمة الأمة وترصيص صفوف المسلمين. وعليه، فإننا على أتم الاستعداد لبدء التحضيرات اللازمة لعقد مؤتمر عام يشارك فيه المعنيون في العالم الإسلامي، وأن نبني على ما تم إنجازه في هذا المجال خدمة للإسلام والمسلمين، وبذلك نضرب مثلا حسنا عن صورة المسلمين، بغض النظر عن مذاهبهم، وبما يسهم في إخماد الفتن ووقف النزاعات والصراعات التي تتخذ من قشور الإسلام مادة لتناحر المسلمين.

يقودنا الحديث عن التناحر والتنافر للتفكير بصورة العالم الإسلامي، عندما تتناول وسائل الإعلام تدمير المساجد والأضرحة والمقدسات الإسلامية من قبل بعض المتشددين من أتباع هذا المذهب أو ذاك. ولعل ما يجري في تمبكتو بمالي، وبعض المدن الإسلامية الأخرى، هو مثال مؤلم يسيء إلى صورة المسلمين والإسلام معا. فبدلا من أن تدمر صروحنا الإسلامية، علينا أن نبذل ما بوسعنا لإيقاف فتيل العنف ونتوحد لحماية مقدساتنا وفي مقدمتها المسجد الأقصى.

ولكي نعزز وحدتنا ونترجم مفهوم المصير الواحد، كما يحلو للجميع أن يتحدث به، فإن مفهوم التكافل والتضامن بين المسلمين يستلزم تنفيذ أحد أهم أركان ديننا الحنيف وهو الزكاة.

ففي الوقت الذي تتفاقم فيه المشكلات والتحديات الاقتصادية العالمية ويدفع ثمنها الأكبر العالم الإسلامي، نجد أنفسنا في أمس الحاجة إلى تأسيس صندوق الزكاة العربي الإسلامي الذي سبق أن دعونا لتأسيسه وعرضناه على جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي وغيرهما من المؤسسات المعنية.

إن تطبيق مفهوم الزكاة المستند إلى التشريع الإلهي الخالد لتغطية حاجات الأمة في مجالات المصارف المعروفة، التي يهدف غالبها لمعالجة الفقر والبطالة ومواجهة التخلف، سيسهم في عملية التنمية الشاملة لمجتمعاتنا. فالصندوق الذي ندعو إليه يقوم على توظيف أموال الزكاة لتمكين الفقراء والمساكين وليس فقط لإطعامهم، وذلك من خلال الاستثمار في تعليمهم وتدريبهم ومساعدتهم في مشاريع استثمارية وأخرى إنتاجية تعود بالنفع على المجتمعات في البلدان الإسلامية.. إنه مفهوم إنساني ليس الهدف منه فئة دون أخرى، لكنه تطبيق بمعنى إنساني يأخذ بالاعتبار مفهوم الزكاة بأبوابها الثمانية الذي نصت عليه الآية الكريمة: بسم الله الرحمن الرحيم «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِين وَالْعَامِلِين عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهم وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِين وَفِي سَبِيلِ الله وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ الله وَالله عَلِيمٌ حَكِيمٌ»، (سورة التوبة). وبذلك نكون قد ركزنا على أحد مقاصد هذا التشريع الرباني وهو مفهوم «القوامة» الذي يهدف إلى تمكين كل من تجوز عليه الزكاة ليصبح قادرا ليس فقط على إعالة نفسه، بل يصبح مخرجا للزكاة، مما يولد فائدة إضافية مضاعفة للزكاة تعود على اقتصاديات الدول الإسلامية والتنمية البشرية بالخير الوفير.

لقد تميز ديننا الحنيف بالتسامح والمحبة، وجعل من أتباع الديانات الأخرى جزءا فاعلا أساسيا في المجتمع. ولعل دستور المدينة الذي وضعه سيد الأنام محمد بن عبد الله في المدينة المنورة في بداية الدعوة الإسلامية المجيدة يعكس حقيقة الإسلام وجوهر قيمه ونظرته المتسامحة للأديان الأخرى.. ألا يفرض علينا اقتداؤنا بالرسول العظيم أن نحذو حذوه لتحقيق مفهوم العيش المشترك ونبذ التعصب والعنصرية بجميع أشكالها. لقد أسهم المسيحيون العرب وغيرهم من أتباع الديانات في بناء الحضارة العربية الإسلامية، وكانوا من أكثر المدافعين والمحافظين على لغة القرآن (اللغة العربية)، وبرز منهم المفكرون واللغويون والأدباء والشعراء والعلماء الذين يتفاخرون بانتمائهم لهذه الأمة، ويتقاسمون معنا المصير الواحد.

إن ما أقوله هو بمثابة تجديد النداء للتآخي والتآزر مع الإخوة المسيحيين وغيرهم من أتباع الديانات الذين يعيشون معنا ولهم ما لنا وعليهم ما علينا، وتمكينهم من ممارسة شعائرهم وعقائدهم والحيلولة دون هجرتهم، التي أصبحت تتزايد بشكل يدعو إلى القلق والحزن، ويستفيد من هذا النزيف أصحاب الأغراض والساعون لتفريغ العالم العربي من كفاءاته وأبنائه، وصولا لوصم العرب والمسلمين بالتعصب والعنصرية.

إن ما نقوله بمثابة تذكير وتأكيد لدعواتنا القديمة الجديدة، ولكن هذه المرة في رمضان، شهر اليسر والخيرات والصدقات والتسامح. عسى أن يكون لندائنا هذه المرة الاستجابة التي يتطلع إليها المسلمون وأشقاؤهم من أتباع الديانات الأخرى، ومنذ سنوات طويلة.

إن سعينا لرص الصفوف وتوحيد الكلمة وبناء مجتمع قائم على العدالة الاجتماعية والمساواة والتوازن في الحقوق والواجبات دعانا دائما ويدعونا للبحث عن مختلف الوسائل التي تحقق هذا الهدف، لذلك اقترحنا وضع ميثاق اجتماعي عربي يلتزم به الجميع ويحقق مفهوم المصير المشترك لنا جميعا.

لقد أبرزت التطورات الراهنة في العالم العربي أن البعد الحياتي للإنسان العربي المتمثل في الفقر والتهميش وغياب الحريات وعدم التمتع بحقوق المواطنة قد نجم عنه غياب التضامن، سواء في إطار المجتمع الواحد أو على الصعيد العربي. فقد أثبتت الظروف التي واجهها العالم العربي، أن غياب التضامن العربي وعدم وجود ميثاق عربي يلزم المعنيين فرادى ومؤسسات، يشكل التحدي الأكبر الذي يواجهه العالم العربي، ولعل ما تشهده بعض الدول العربية من توترات واحتجاجات وثورات يترجم بجلاء الآثار الناجمة والخطيرة المترتبة على غياب التضامن والحاجة الماسة لهذا الميثاق، بكل ما يحمله ذلك من غياب للعدالة الاجتماعية التي أضحت سمة يكاد يتميز بها العالم العربي وحده دون غيره، وعليه، فإن من المهم صياغة ميثاق يتضمن مبادئ واضحة من شأنها حماية قيم المجتمع وتراثه وبما يعزز من تماسك وتضامن مجتمعاتنا في مواجهة التحديات ويحدد هوية للعالم العربي، وتتجاوز الخلافات المذهبية والآيديولوجية والسياسية والعرقية، وتعمق مفهوم الانتماء والتعاون بين الشعوب العربية الذي تشترك في إرث يتسم بالكرامة الإنسانية والتضامن والشعور بالانتماء والمصير المشترك.

إن التعامل مع الاختلافات الإثنية، واللغوية، والدينية، وتعدد الهويات لمجتمعاتنا هو حجر الأساس للتوصل إلى ميثاق للتضامن الاجتماعي. وبالتالي، فإن هذه الاختلافات ينبغي ألا ينظر إليها وكأنها تهديد للمجتمع بقدر ما هي مصدر إغناء وتنوع يعود بالنفع على العالم العربي وعلى صورته الخارجية.

إننا وفي هذه الأيام المباركة، نضع هذه الأفكار أمام أمتنا، شعوبا وصناع قرار وحكماء ورجال الدين والسياسة، لكي يعمل كل منا من موقعه، ويوظف قدراته لخدمة المسلمين والمجتمع بأطيافه ومكوناته المختلفة. وبهذا الصدد، فإننا نشهد الله أننا سنضع أيدينا بأيدي المخلصين والساعين لرفعة العالم العربي والإسلامي، كما نضع ما من الله به علينا من فضل، مستفيدين من العلاقات التي تربطنا بأشقائنا وأصدقائنا في العالمين العربي والإسلامي والعالم أجمع، لكي تكون صورة الإسلام والمسلمين ومجتمعاتنا في أبهى حللها، وبذلك نكون قد أوفينا واجبنا وأرضينا الله والضمير.. والله الموفق.

* رئيس منتدى الفكر العربي

في عمان - الأردن