لو أن مرسي خيب ظن كلينتون

TT

القصة رواها كثيرون، في أكثر من موضع، وفي أكثر من مناسبة، ورغم أنها قد مضى عليها ما يقرب من ستين عاما، فإنها تظل حية، وتبقى حاضرة بمعناها، في كل وقت.

وقد بدأت عندما طلب صحافي إنجليزي أن يجري حوارا مع الرئيس جمال عبد الناصر، بعد أن آلت إليه السلطة كاملة في البلاد، عام 1954.. وقتها جاء الصحافي يسأل قائد ثورة يوليو (تموز) عن أشياء كثيرة، وكان عبد الناصر، في ما يبدو، يجيب بصدق وأمانة، ولم يكن يتصور أن الصحافي إياه قد جاءه عن قصد، وأن الحوار في حد ذاته ليس هو الموضوع، ولا هو الهدف، وإنما الموضوع هو سؤال محدد، كان يراد أن يجيب عنه عبد الناصر، بتلقائية، وأن يرى قادة إسرائيل، وقتها، من خلال الإجابة عن ذلك السؤال، كيف يفكر ناصر في ما يخصهم!

سُئل قائد يوليو من قبل الصحافي الإنجليزي، عما إذا كان يتخيل شكلا معينا لمستقبل العلاقة بين بلده، وإسرائيل، فقال ما معناه: إن إسرائيل لا تشغله الآن مطلقا، وإنه مشغول بوضع خطة متكاملة للتنمية في مصر، ثم بوضع هذه الخطة موضع التنفيذ.

تبين في ما بعد أن الصحافي الإنجليزي إياه التقى بعد إجراء الحوار مباشرة مع ديفيد بن غوريون، رئيس وزراء إسرائيل، الذي كان بدوره ينتظر أن يعرف منه، ضمن حكاية جرى ترتيبها مسبقا منذ بدايتها، كيف يفكر الزعيم الجديد في القاهرة، بشكل عام أولا، ثم كيف يفكر، ثانيا، في ما يتعلق بعلاقته مع تل أبيب، في السنوات المقبلة.

يقال إن بن غوريون - عندما سمع أن عبد الناصر مشغول بتنمية بلده، من خلال خطة كان قد وضعها، وأنه ليس مشغولا بإسرائيل - قد صمت قليلا، ثم قال في أسى: «هذا أسوأ خبر سمعته في حياتي!».. وبقية القصة يمكن تخمينها، أو بمعنى أدق، فإن أسباب حزنه، عندما عرف ما يفكر فيه عبد الناصر، يمكن أن تكون مفهومة.. فهو، شأنه شأن أي رئيس وزراء إسرائيلي أتى بعده، لا يسعده، ولا يسعدهم جميعا، أن يكون في القاهرة رئيس يضع أمام عينيه هدفا أساسيا لا يغيب عنه، وصولا إلى أن تكون لبلده المكانة التي تليق به، بين الأمم.

طاف معنى القصة في ذهني، كأنه ومضة اشتعلت فجأة، وسط ظلام متراكم، حين تابعت أخبار زيارة هيلاري كلينتون، وزيرة الخارجية الأميركية، إلى إسرائيل يوم الثلاثاء الماضي، بعد أن كانت قد سبقتها بزيارة إلى القاهرة يومي الأحد والاثنين.

ليس موضوعنا، هنا، ما جاءت من أجله، في زيارة كان مقررا لها أن تتم يوم 1 يوليو الحالي، إلا أن ظروف الرئيس مرسي لم تسمح، فكان أن تأجلت الزيارة أسبوعين.. الغريب، في المناسبة، أن 1 يوليو، هو اليوم التالي مباشرة لليوم الذي أدى فيه الدكتور مرسي اليمين الدستورية، وبمعنى آخر، فقد كان يوم أول يوليو هو رسميا أول يوم للرئيس المنتخب في الحكم.. فهل كانت السيدة كلينتون تريد أن تكون أول مسؤول أجنبي يلتقي الرئيس المصري الجديد؟!.. وهل أراد الرئيس مرسي، من جانبه، أن يقول لها، بشكل غير مباشر، إنها إذا كانت قد هيأت ظروفها لتكون صاحبة أول لقاء لوزير أجنبي معه، فإنه، هو الآخر، عنده أولوياته، وظروفه التي يجب أن تفهمها - ولا أقول تتفهمها - هيلاري كلينتون؟!.. يجوز!

على كل حال، جاءت هي، ثم غادرت، وسط عاصفة من الغضب الشعبي الذي انفجر في وجهها، في كل مكان ذهبت إليه، لدرجة أنها كانت هدفا لقذائف من البيض والطماطم، هاجمها بها الغاضبون في الإسكندرية.. وقد أرادت هي أن تبدو لنا، وكأن ما حدث لم يزعجها، وأنها أخذته باعتباره ثمنا لمناخ الحرية في البلد، وأن على المسؤول، حتى ولو كان أجنبيا زائرا، أن يدفعه، ولذلك قالت ما معناه إن ثمرات الطماطم الطيبة التي أهدرت على الأرض هي تحديدا التي أزعجتها بشكل حقيقي!.. وبطبيعة الحال، فإن تصويرها لما واجهته من غضب شعبي، على هذا النحو، فيه تبسيط مخل، إذا جاز التعبير، للموضوع كله، لا لشيء إلا لأنها لم تسأل نفسها لماذا قوبلت أصلا بهذا القدر من السخط بين المصريين!.. ولم تسأل نفسها، ما إذا كان عليها أن تدعو إلى مراجعة سياسة بلادها تجاه المنطقة عموما، ثم إزاء مصر خصوصا!

نصل، إذن، إلى زيارتها لإسرائيل التي طارت إليها من القاهرة مباشرة.. فهناك قالت في مؤتمرها الصحافي، الذي عقدته يوم الثلاثاء، إنها أبلغت القادة في إسرائيل بأن الرئيس مرسي لن يفكر في شيء يمكن أن يقلق الإسرائيليين، على الأقل في الوقت الحالي، لأن عنده مشاكل داخلية كثيرة، سوف يكون عليه أن يتفرغ لها!

لا أريد أن أردد العبارة الشهيرة التي تقول «ما أشبه الليلة بالبارحة»، فقد رددناها طويلا حتى أفرغناها من معناها، لكن ما يمكن استخلاصه من القصتين، حين نضعهما أمام بعضهما البعض، أن الرسالة التي انتظرها بن غوريون، في أعقاب ثورة يوليو، قد أحزنته، وسببت له الكثير من الغم، وأن الرسالة التي انتظرها نتنياهو، في أعقاب ثورة يناير 2011، قد أسعدته بالضرورة، لأن الدكتور مرسي، الذي يجلس على كرسي عبد الناصر، لا يفكر في إسرائيل، ليس لأن عنده مشروع النهضة - مثلا - الذي طرحه على الناخبين، وقت أن كان مرشحا رئاسيا، وأن عليه أن يجسده على الأرض، وإنما لأنه تقريبا غارق في مشاكل لا حصر لها، وسوف يكون عليه أن ينتهي منها ثم يرى بعد ذلك ما إذا كان سوف يتبقى لديه وقت لمشروع النهضة، أم لا!

كانت ابتسامة عريضة قد ملأت وجه الوزيرة، عندما كان الرئيس الإسرائيلي بيريس يصطحبها إلى مكتبه، وكأن لسان حالها يقول إنها تحمل إليه خبرا سعيدا من مصر، وإن مشروع النهضة الذي من المفترض أن يحقق به الدكتور مرسي شيئا ملموسا للمصريين لا مكان له، في الأمد الزمني المنظور، على جدول أولويات الرئيس، وإن هناك تفاصيل أخرى سوف تستغرق الرئيس إلى الدرجة التي سوف تلهيه تماما، ليس عن إسرائيل، ولكن عن هدفه الأهم!

وإذا كان هناك شيء يمكن أن يتمناه المرء على الدكتور مرسي في هذه اللحظة، فهو أن يُخيّب ظن تلك المرأة، وأن يعمل وفق أولوياته، وقت أن كان مرشحا، لا وفق أولويات تراد له، وبالتالي، لا يسمح للتفاصيل بأن تستغرقه، أو تستنزفه، وأن يكون مشروعه للنهضة هو الأصل، وما عداه تفاصيل.. لا العكس.. كما أرادت الوزيرة كلينتون أن توحي، وهي تنقل رسالة سعيدة لإسرائيل.. وحزينة لنا!