صعد لحمة ونزل فحمة!

TT

كثيرا ما يستغرب الأجانب عند زيارتهم للعراق، بلد الجنائن المعلقة وهارون الرشيد، عندما لا يجدون أية قصور خلّفها الملوك والوُلاة. يظهر أن هناك لعنة - لم يسمع بها صدام حسين - على كل مَن يبني قصرا فيه. هكذا تشاءمت العائلة المالكة من قصر الزهور الذي بناه فيصل الأول، فما انتهى العمل فيه حتى توفي. تلاه ابنه الملك غازي وإذا به يلقى مصرعه بعد سنوات قليلة في تلك الحادثة الباقية في أذهان كل عراقي، حادثة اصطدامه بالسيارة. تشاءمت زوجته الأرملة، الملكة عالية من ذلك القصر، فأخذت ابنها الطفل فيصل الثاني وانتقلت به إلى قصر الرحاب، القصر المتواضع لأخيها، الأمير عبد الإله وما هي إلا سنوات حتى ماتت هي بالسرطان. ثم جاء الضباط الأحرار، فأبادوا كل الأسرة المالكة تقريبا وهدموا القصر، وبعدها حوّله صدام حسين إلى سجن متخصص بالتعذيب، وسمّوه قصر النهاية. وما أدقها من تسمية. بقي قصر الزهور فارغا حتى جاء الرئيس الغيني سيكوتوري، فأسكنوه فيه، على اعتبار أنه إذا أصيب هو أيضا بالسرطان فلن يكون أمرا ذا بال بالنسبة للعراقيين، ألوف منهم يموتون بالسرطان كل يوم.

كان ذلك في عهد الرئيس عبد السلام عارف، لا أتذكر عنه شيئا، لكنني أتذكر أن صديقي إقبال الفلوجي، كان عندئذ موظفا دبلوماسيا، وبالنظر لمعرفته بالفرنسية، فقد عهدوا إليه بمصاحبة الضيف الرئيس الغيني. وكما تقتضي أصول البروتوكول، قام الرئيس العراقي بزيارته في مقامه في قصر الزهور. تولى عندئذ صديقي الهمام مهمة الترجمة بين الرئيسين. بدأها عبد السلام عارف بالحديث عن الثورة وكيف أسقطوا النظام الملكي، وقتلوا الملك الطفل فيصل الثاني، وأقاموا الجمهورية، وهو ما لم تفعله حتى غينيا.

بالطبع شملت الزيارة التفرج على أرجاء القصر الملكي وحدائقه، ثم عرج الرئيس عبد السلام عارف إلى الحديث عن مهمته عندما كان ضابطا مسؤولا عن حراسة العائلة المالكة وقصورها بما فيها ذلك القصر، قصر الزهور. لاحظ الرئيس العراقي أن المترجم إقبال الفلوجي لم يترجم هذا الجزء من حديثه، فالتفت إليه وقال: «إيش بك ساكت؟ ما تترجم هالكلام للرئيس سيكوتوري حتى يعرف أني أنا كنت المسؤول عن حراسة الملك وكل هذي القصور»، أجابه إقبال الفلوجي بما عرف عنه من دبلوماسية فقال: «يا سيدي الرئيس، أخشى أن أترجم هذا الكلام وبعدين الرئيس سيكوتوري يقول مع نفسه حاميها حراميها!». (طبعا لو كان الحاكم صدام حسين، لما عاش صديقي أبو محمد إلى اليوم ليروي هذه الحكاية بكل صدق ودقة، لكنه كان عبد السلام عارف، وهو بحد ذاته كان منكّتا ظريفا لا يقل عن الرئيس الحالي جلال طالباني في هزلياته السوداء. وما زال الناس - أو على الأقل من بقي منهم حيا ولم يمت على يدي صدام حسين أو أيادي من تسمّيهم وسائل الإعلام العربية بالثوار - يتذكرون دررا من خطبه الشهيرة)، فنظر في وجه صديقي، ثم انفجر ضاحكا، وقال: «ملعون، أنت حقيقة عاقل ومجنون! شلون فكرت بيها؟».

بعد هذه الزيارة الوجيزة لقصر الزهور، احترقت الطائرة العمودية، الهليكوبتر، التي كانت تنقل الرئيس عبد السلام عارف ومات محترقا بسقوطها. روى العراقيون النبأ فقالوا «لا حول ولا قوة إلا بالله، صعد لحمة ونزل فحمة!».