الحقائب وحمولتها

TT

منذ نصف قرن - على الأقل - انضممت في الصحافة إلى ما كنا نسميه يومها «الأخبار الخارجية». كان خيارا وجدانيا بادئ الأمر، غايته الابتعاد عن السياسات المحلية وعقمها ومحدوديتها وتاراتها. ومع الوقت صار خيارا حقيقيا، أي عقلانيا، «فالخارج»، أي العالم الأوسع، مليء بالأحداث الكبرى، وفيه رجال كبار وقضايا تاريخية وقراءات لا حد لها، تتجاوز تشكيل الوزارة وتوزيع الحقائب - وحمولتها - في لبنان.

من الصعب أن أقدر حجم ما تابعت وقرأت وسافرت خلف «الأخبار الخارجية». لكن من السهل الإعلان عن أنني لم أفهمها بعد. وأعرف - مثل جميع البشر - القول المكرر «إن المصالح هي التي تحرك الدول كما تحرك الأفراد». لكنني لا أفهم، مثلا، كيف تكون الصين أكبر شريك «مالي» للولايات المتحدة، وأكبر شبح مستقبلي تخاف منه. وكيف تكون العلاقة الأميركية - الصينية في هذا الحجم، ثم تقف بكين مع خصمها التاريخي موسكو وضد أميركا في الموضوع السوري.

من أجل عزل الكرملين السوفياتي أذهل ريتشارد نيكسون العالم الشيوعي والرأسمالي، عندما ظهر فجأة في الصين يتناول الشاي بالياسمين مع التشرمان ماو، ويلاحظ أن مترجمته إلى الإنجليزية هي المفضلة لديه، لكفاءات وميزات تتعدى المعرفة المشتركة بين لغة شكسبير ولغة كونفوشيوس. كانت الصين تساعد الفيتناميين على اصطياد الأميركيين وتطلب (وتحصل) من أميركا معاملة الدولة الأفضل، أو الأقرب.

إذا كانت الدنيا مصالح، هل مصلحة روسيا مع إيران وطرطوس، أم مع الخليج ومصر ودول المغرب ومعها إندونيسيا وسواها؟ هل هي مع النظام المعرض للخطر أم مع النظام المحتمل ولو مجهول؟

تستعد الولايات المتحدة للخروج من أفغانستان - مع حلفائها - تاركة قوة صغيرة لحماية منشآت وقواعد وأسلحة الطيران. لا جيوش برية بعد اليوم. تذكروا ما حدث في ليبيا: اقتربت الحاملات وقصفت الطائرات وأقفل أوباما الباب على نفسه بعد أسبوع. وكان قبلها خرج من العراق. والآن يملأ البحر سفنا في الخليج. لكن لا ميادين. أخيرا تعلم الأميركيون الدرس الذي تعلمته بريطانيا منذ القرن التاسع عشر: اضرب بحرا. اضرب جوا ولا تحول جيوشك إلى طرائد. على الأقل حيثما أمكن.

اتركوا الباقي للطائرات. منع الكونغرس توسيع القصف الجوي في فيتنام فسقطت سايغون، الآن سوف يترك الأميركيون في أفغانستان طائرات «الدرون»، (من دون طيار) لكي تؤدب طالبان وتناوشهم عندما يرتدون ثياب الشرطة الحليفة. وسوف تترك المسرح للرئيس كرزاي.

آه، صحيح. كنا في محاولة فهم الأخبار الخارجية. لا تحاولوا، وما الفائدة من المحاولة في أي حال؟ إذا فهمتم ازددتم خيبة، وإذا لم تفهموا ازددتم يأسا.