أمام المساومات الدولية.. لا حاجة للسوريين بعد الآن لشهود زور

TT

«بمقدور النفاق أن يقدم أروع الوعود، فطالما لا وجود لنية الذهاب أبعد من الوعد، فإنه لا يكلف شيئا». (إدموند بيرك)

اختصر فيتالي تشوركين، مندوب روسيا لدى الأمم المتحدة، مبررات «الفيتو» الروسي - الصيني الثالث بكلمتين هما: «إنها إيران»!

المعنى، الذي أوضحه تشوركين أكثر لاحقا، هو أن روسيا والصين تخوضان حقا معركة المحافظة على التحدي الإيراني الظاهر للنفوذ الأميركي في منطقة الشرق الأوسط. غير أن هذا الموقف المشترك من موسكو وبكين، في النهاية، لا علاقة له بتحالف مبدئي أو بتفاهم على قواسم فكرية مشتركة، بل ينطلق من معادلة «عدو عدوي صديقي». وبما أن الولايات المتحدة دخلت منذ بضعة أشهر، فعليا، مرحلة الحملة الانتخابية، حيث يصبح في رأس أولويات القوتين السياسيتين الرئيسيتين - أي الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري - تحاشي ارتكاب الأخطاء، وليس الخروج بمبادرات جريئة وحازمة. وبالتالي، فإن هذه الفترة توفر الفرصة الذهبية لابتزاز واشنطن، وكسب النقاط على حسابها في كل الملفات العالمية المفتوحة.

الواقع أن هناك الكثير.. الكثير الذي استطاعت وتستطيع روسيا والصين المراهنة عليه من خلال ابتزازهما واشنطن حتى مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية.

هناك، مثلا، سوء الوضع الاقتصادي الأميركي، وهشاشة الوضع الاقتصادي - السياسي عند حلفاء واشنطن الأوروبيين، وقلة تحمس إسرائيل إزاء إسقاط نظام بشار الأسد في دمشق، وتعجل إيران الهروب بملفها النووي إلى الأمام في أعقاب بزوغ «الربيع العربي». وكانت إيران قد حاولت ركوب موجته «الإسلامية» مع تغييري تونس ومصر، ثم حصد ما زرعته طويلا في اليمن مع الحوثيين وغيرهم، قبل أن يصدمها الاضطراب - ومن ثم الانهيار - السوري المتزامن مع انكشاف مشروعها عراقيا ولبنانيا، بل فلسطينيا وخليجيا أيضا.

لا بد من النظر إلى الموقف الروسي - الصيني من زاوية استغلال نقطة الضعف الأميركية بالدرجة الأولى، من دون التوقف طويلا أمام الخطاب المبدئي الكاذب في العالم العربي، الذي أتقنه واجتره طويلا دجالو «النضال» وتجار «الممانعة» و«مقاومة إسرائيل والإمبريالية» وسط صمت الجبهات، وتحويل فوهات المدافع وراجمات الصواريخ إلى أجساد مواطنيهم.

الصورة تتضح يوما بعد يوم لطبيعة المشروع الإيراني، والموقف الإسرائيلي الحقيقي منه، والفرز المذهبي - الديني الخطير الذي استثاره هذا المشروع على امتداد المنطقة العربية، في ظل المباركة الإسرائيلية الصامتة، يفضحه منذ أكثر من 16 شهرا الأسلوب الدموي الذي اعتمده نظام الأسد مع الشعب السوري.. وهذا بعد الحالة التفتيتية للعراق التي ما كانت لتحدث لولا تلاقي المصالح بين طهران وتل أبيب وموافقة واشنطن جورج بوش الابن.

وليس بعيدا عن ذلك الموقف الملتبس لموسكو، تحديدا، من كل من طهران وتل أبيب.. وكلام سيرغي لافروف المتكرر عن مصير الأقليات، وعلى رأسهم الأقلية المسيحية، في سوريا. ثم «التحالف الاستراتيجي» الغريب العجيب بين حزب الله التابع لإيران وتيار ميشال عون، المدان أحد أركانه، العميد فايز كرم، بالتعامل مع إسرائيل.

وكان لافتا خلال الأسبوع الماضي أن السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، أطلق في خطابه المسهب بمناسبة «الانتصار الإلهي» في يوليو (تموز) 2006 موقفين متناقضين يعكسان التضارب بين المصالح الاستراتيجية والتكتيكية، والقول والفعل، والرغبة في التعايش، وتبرير الفرز المذهبي - الديني. فالسيد نصر الله اقترح «ميثاق شرف» إعلاميا يكبح الخطاب التحريضي الطائفي، ولا سيما بين السنة والشيعة، ولكنه في الوقت نفسه شدد بصورة قاطعة على ثبات تحالفه الاستراتيجي مع ميشال عون الذي بلغ بمستوى تحريضه الطائفي إلى حد اتهامه شيخ دين سنيا قتل في ظروف مؤسفة على حاجز عسكري بنقل زجاجات خمور في سيارته.

ما هو رأي السيد حسن في كلام «حليفه الاستراتيجي»؟ أيتصور أن تحريضا سافرا إلى هذا الحد يفيد مشروع «ميثاق الشرف»؟ وهل يطمئن المسلمين السنة تأكيد الشيخ إبراهيم الأمين السيد، الرئيس السابق لكتلة حزب الله البرلمانية والقيادي البارز في الحزب، على استراتيجية العلاقة مع عون ونضاله الشريف من أجل «المقاومة» في نفس أسبوع تهجمه على الشيخ القتيل؟

هذه أسئلة من العبث توقع إجابات عنها من حزب الله الذي يعرف جيدا كل خفايا تاريخ ميشال عون «المقاوم» جدا، لكن أي رد حقيقي عليها يفضح مستوى نفاق سياسي غير مسبوق، يقامر اليوم بمصير الشعب السوري بعدما قامر طويلا بمصير الشعب اللبناني.

ولنعد إلى سوريا...

الشائعات كثرت خلال الأسبوع الماضي وتنامت بعد «انفجار» مقر وحدة الأزمة في قلب دمشق، الذي أتى - كما أعلن الإعلام الرسمي الإيراني، ممثلا بتلفزيون «المنار» التابع لحزب الله، قبل الإعلام الحكومي السوري - على عدد من أبرز القيادات الأمنية والعسكرية السورية.

من هذه الشائعات أن عدد القتلى والمصابين في «الانفجار» أكبر مما أعلن، وأن شيئا ما حال دون مشاركة الرئيس بشار الأسد في تشييع القيادات القتيلة، مع أن حدثا بهذه الخطورة يستحق حضور الرئيس وليس نائبه الذي لا يتمتع بأي نفوذ يذكر. ثم إن تلفزيون «المنار» أشار إلى مشاركة ماهر الأسد، رجل النظام القوي، في التشييع من دون أن تظهره صور التلفزيون الحكومي السوري.

كذلك هناك كلام السفير الروسي لدى فرنسا عن استعداد الرئيس السوري للتخلي عن الحكم ولكن شريطة حفظ كرامته، ونفي هذا الكلام لاحقا، قبل إعادة تأكيده، وحرص موسكو على نفي «شائعات» عن وجود زوجة الرئيس وعائلتها في روسيا!

كان هناك كلام أيضا عن أن بعض القيادات الأمنية القتيلة كانت أسماؤها مطروحة على أعلى المستويات، بعد لقاء جنيف الأخير، كجزء من «سلطة» انتقالية تقوم بعد تخلي بشار الأسد عن الحكم، وهو ما فتح باب التأويلات عن ظروف تغييبها ومن هم أصحاب المصلحة في ذلك في هذا الوقت بالذات.

في مطلق الأحوال، أولويات الشارع السوري أيضا غدت أكثر واقعية وإصرارا في ظل انعدام الجدية على المستوى الدولي.

لقد اكتشف السوريون أن غاية حرص المجتمع الدولي، وسط تضارب مصالح لاعبيه الكبار، «تمرير الوقت». وهكذا جاءت المساومة الأخيرة في مجلس الأمن بإطلاق المجلس مهمة مراقبة عبثية جديدة، أشبه ما تكون بمهمة «الدابي 3»، مهلة أخرى للجانبين. إنها تعطي النظام مزيدا من الوقت لحسم المعركة عسكريا، وتعطي المعارضة أيضا الفرصة لكي توحد صفوفها وتتفق على الحد الأدنى من المبادئ بحيث تكون مهيأة لتشكيل سلطة بديلة.

المهمة أمام السوريين الآن، بكل بساطة، هي تنظيم الصفوف والاتفاق المخلص على القواسم المشتركة، وطمأنة كل مكونات المجتمع السوري التي تعمد نظام الأسد - في عهدي الأب والابن - تشويه نظرتها إلى نفسها وإلى الآخرين. ومن ثم المباشرة بتشكيل البنى التحتية العملية قبل أن يسبقهم توالي الأحداث على الأرض. أما العرب، المفترض أنهم مستهدفون مثلهم مثل السوريين بالمشاريع الإقليمية المتقاطعة، فعليهم سحب الغطاء عن مبادرة كوفي أنان، وترك المجتمع الدولي يتحمل تبعات إخفاقها.

الشق العربي من مهمة أنان يجب أن ينتهي، بدلا من أن يظل العرب شهود زور على مصائرهم.