هناك الكثير مما يجدر التأمل فيه خلال شهر رمضان

TT

رمضان كريم. أتمنى لكم أن تنعموا بالصحة والسلام والرخاء، وأن يعم حياتكم الدفء والسعادة بين ذويكم وأصدقائكم.

هذا هو وقت التأمل، وسوف أعود مجددا إلى التفكر في مفهوم الشراكة بين القطاعين العام والخاص، كما سأتطرق إلى المشكلات المتعلقة بسعر «ليبور».

إن الشراكة بين القطاعين العام والخاص، حينما تتحقق بشكل سليم، تضمن تعاظم المنفعة التي تعود على المواطن، ومن الخطأ أن تستخدم هذه الشراكة لأنها ملائمة بالنسبة للحكومة أو لأنها مفيدة بالنسبة للقطاع الخاص، بل إن الطريقة المثلى هي أن تكفل العمليات التي تتضمنها هذه الشراكة أن يلتزم القطاع الخاص المعايير التي تضعها الحكومة لخدمة المواطنين.

وقد قضيت بعد ظهيرة يوم الخميس الماضي في التحدث مع صديق يعمل في «مؤسسة التمويل الدولية» في هونغ كونغ، وكان في زيارة قصيرة إلى لندن لتقديم عرض فني عن الشراكة بين القطاعين العام والخاص لصالح أحد مشاريع النقل الكبرى في ماليزيا، وانضم إلينا في المناقشة صديقي المقرب ستيفن هاريس. وقد كان ستيفن، مثلي تماما، منخرطا من البداية في مجال الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وهو على دراية تامة بالخلفية التي قامت عليها مفاهيم مبادرة التمويل الخاص والشراكة بين القطاعين العام والخاص - وهو مجال يتضح أن الكثيرين ليسوا على دراية كافية به.

فقد صار من الجلي أن حتى من لديهم معرفة بالشراكة بين القطاعين العام والخاص غالبا ما يكون لديهم فهم محدود للسبب الذي جعل بعض أجزائها تصبح بالشكل الذي هي عليه، والكثيرون يحاولون التعليق على وضع معقد دون أن يكونوا مطلعين على الظروف التي صاغت الشراكة بين القطاعين العام والخاص. وقد أسهمت تلك المناقشة، إلى جانب التغذية الراجعة من فصول الماجستير التي تقدمها «كلية إدارة الأعمال» بجامعة «لندن متروبوليتان» في تخصص الشراكة بين القطاعين العام والخاص وكذلك المناقشات التي أجريها في منظمة «بريتيش إكسبيرتيز»، في بلورة رأيي في هذا الخصوص.

ويعد هذا بالتأكيد أحد الأسباب وراء وجود كل هذا القدر من النقاش المضلل حول ذلك الموضوع، وهذا بدوره يؤدي إلى أن تؤخذ أفكار مشكوك فيها إلى حد بعيد بجدية تامة. فإذا لم يتم استيعاب تاريخ وسياق الكثير من الجوانب المهمة والمنطق الأصلي لها، فكيف يمكن أن ننتظر من الناس أن يتشككوا في صحة آراء تبدو معقولة، لكنها في الحقيقة خاطئة؟

إن أهم ما ميز العملية التي تمت لأول مرة في المملكة المتحدة هو الاستعانة بأموال القطاع الخاص في توفير البنية التحتية اللازمة لتحسين الخدمات العامة، وسرعان ما أدركنا سر قوة هذا الشكل من أشكال التدبير وهو: الحاجة إلى أن يحدد القطاع العام ملامح الخدمة التي يريد بيعها، والحاجة إلى تحديد آلية سداد تحفز القطاع الخاص على تقديم تلك الخدمة، ونظام من الشيكات والأرصدة يضمن التوازن ما بين الحقوق والواجبات. وهذه القوة التي تتمتع بها الشراكة بين القطاعين العام والخاص تنبع من تعرض رأس المال الخاص للمخاطرة، فمن دون تعرض رأس المال الخاص للمخاطرة، لن يكون هناك أي تلاق حقيقي للمصالح العامة والخاصة.

ويختلف نموذج السداد في عقد شراكة سنوي بين القطاعين العام والخاص اختلافا كبيرا عنه في مشروع بنظام «بي أو تي»، فنظام «بي أو تي» به عيوب تتعلق بنقل المخاطر، نظرا لأنه لا يتضمن نفس الحوافز المالية في صورة عوائد لحقوق الملكية، وذلك من أجل ضمان التزام الاتحاد المالي بالمشروع على المدى الطويل. وعلينا أن نفكر في كيفية إشراك المزيد منا وزيادة المصلحة الكلية.

وفي ما يتعلق بفضيحة سعر «ليبور»، أشعر بأن هناك الكثير مما يستحق النظر إليه في اللحظة الراهنة. وأود أن أبدأ بفكرة أخرى وهي: هل المشكلة الحقيقية تتعلق بالمصارف وسعر «ليبور» والتنظيم والإشراف؟ هذه أمور مهمة، ويبدو أن هناك اتجاها جديدا قد ترسخ، وهو يتضمن خفضا لمستوى المعايير الأخلاقية المقبولة في عالم المال والأعمال. فهل هناك حقا فارق بين مصرفي محتال يتلاعب في سعر «ليبور» لتحقيق مكاسب شخصية ومحرر إخباري في صحيفة أو قناة تلفزيونية ينشر قصصا منقوصة وأحيانا ما يستكملها بالتلفيق واختلاق التفاصيل؟ أو مسؤول إعلاني يقنع الناس بشراء أكثر مما يحتاجونه أو يستطيعون تحمل ثمنه؟ أو منتج أغذية مصنعة يضيف كميات كبيرة من السكر والملح والمواد المضافة التي تضرنا؟ بل ويتم كل هذا مع علم تام بالنتائج.

إن التلاعب في سعر «ليبور» لا يتعلق بالإضرار بالمصارف فحسب، بل يتعلق بالإضرار بالنظام المصرفي ككل، فسعر «ليبور» هو أهم مقياس منفرد لسعر الأموال، وهو ما يؤثر بدوره على سعر القروض، مما ينعكس سلبا على سوق القروض المشتركة الدولية بأكملها. ومن الصعوبة بمكان أن نتذكر شكل العالم قبل أن توجد أسواق المال، وقبل اختراع سعر «ليبور» لقياس الأسعار التي تقوم المصارف بإقراض بعضها البعض بها.

ويعود ظهور سعر «ليبور» إلى ستينات القرن العشرين، في الأيام الأولى لأسواق الأرصدة المودعة في المصارف الأجنبية، حينما توصلت مصارف لندن إلى فكرة أنها من الممكن أن تتداول الودائع بالدولار وغيره من العملات في ما بينها عن طريق الهاتف. وانطلق الإقراض المشترك، أي تقسيم القروض الممنوحة على مجموعة من المصارف، على نطاق عالمي حينما أصبح في مقدور المصارف أن تثق بأنها تستطيع الذهاب إلى السوق وشراء الودائع التي تحتاج إليها من أجل تمويل حصتها من القرض.

وقد مولت أسواق الودائع الموجودة في لندن جزءا كبيرا من ذلك التوسع الهائل الذي شهده الاقتصاد العالمي منذ ذلك الحين. وتستطيع الشركات الكبرى تدبير الأموال عن طريق إصدار السندات، وبتكاليف زهيدة جدا في الوقت الراهن. وفي الأسبوع الماضي، نجحت شركة «نستله» في تدبير أموال بسعر أرخص مما في فرنسا، مما يخبرنا بشيء عن تصور المستثمرين تجاه المخاطر النسبية.

ويكون هذا أمرا رائعا إذا كنت شركة ضخمة وشهيرة، لكنه لا يكون بهذه الروعة إذا كنت أصغر حجما أو أقل شهرة. لذا فرغم أن هناك طرقا أخرى لتدبير الأموال، وأن تلك الطرق سوف تتطور أكثر فأكثر، فإن النظام المصرفي الدولي القائم على سعر «ليبور» يتسم بالسرعة والفعالية، إلا أنه أصبح فاسدا، ولا يماري في هذا سوى قلة قليلة. ولكن حينما كان هذا النظام يسير بشكل جيد، كما حدث في معظم الفترة الممتدة ما بين ستينات القرن العشرين والعقد الأول من الألفية الثالثة، فقد أصبح محركا قويا للنمو العالمي.

إن الأثر النهائي لفقدان الثقة في سعر «ليبور» هو فقدان الثقة بالنشاط المصرفي كصناعة، وبالنظر إلى كل هذه العوامل مجتمعة، يبدو لي أن هناك على الأقل طرقا كثيرة يمكن لفضيحة التلاعب في سعر «ليبور» أن تؤثر بها على النشاط المصرفي على مستوى العالم.

أولا، فإن المصرفيين سوف يصبحون أكثر حذرا تجاه كل شيء، وسوف تزداد نظرتهم إلى واجبهم من منطلق الأمانة، حيث سينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم أمناء على أموال الناس وليس باعتبارهم مغامرين يتحملون المخاطرات المالية، لأنهم سيتعرضون للعقاب إذا سارت المخاطرات التي يقومون بها على غير ما يرام، ولن تتم مكافأتهم إذا سارت على ما يرام.

ثانيا، فإن تكلفة الغرامات والدعاوى القضائية سوف تؤدي مباشرة إلى تقليل الأرباح، مما سيزيد من صعوبة التحصل على الأموال التي تحتاج إليها المصارف للوفاء باشتراطات رأس المال المشددة المفروضة عليها بموجب اتفاقية «بازل 3»، وإذا لم تتمكن من زيادة رأسمالها، فإن الطريقة الوحيدة أمامها للوفاء بالاشتراطات الجديدة ستكون تقليص حافظة القروض لديها.

ثالثا، فإن هناك تأثيرا غير مباشر على العمل المصرفي من الضرر الذي يعود على السمعة جراء هذه المشكلة - فمن يريد أن يستثمر في صناعة لا يثق بها؟

ونتيجة لكل هذا، فإن النشاط المصرفي يتضاءل، حيث سنقترض جميعا مبالغ أقل وسنسدد تلك الديون بسرعة أكبر، وسوف تعتمد الشركات على الأرباح المحتجزة في تمويل توسعاتها، كما اعتادت أن تفعل، وسوف يتعين على المشاريع الجديدة أن تجتذب رأس المال المخاطر الحقيقي، لا أن تعتمد على القروض المصرفية. باختصار، سيكون عالما يتعين على المصارف فيه أن تقول «لا» بدلا من أن تحب أن تقول «نعم»، وسوف يتباطأ النشاط التجاري.

وبالتالي، فإن علينا أن نعمل على إصلاح المصارف وإعادة بناء الثقة بالنظام المصرفي إذا أردنا أن يرجع النمو كما كان. حقا إن هناك الكثير مما يجدر التأمل فيه خلال شهر رمضان.

* أستاذ زائر في «كلية إدارة الأعمال» بجامعة «لندن متروبوليتان» ورئيس مجلس إدارة شركة «ألترا كابيتال»