ثورة «الخليفة» الإخواني

TT

لا جديد ولا مفاجأة، في خطبة «الشيخ» إسماعيل هنية، رئيس حكومة حماس في غزة، من فوق المنبر، في صلاة الجمعة الماضية، عن أن وصول الإخوان للسلطة في مصر وتونس، هو بداية «الخلافة الإسلامية».

هنية في خطبته هذه اعتبر أن اللقاء الذي جمع بين الرئيس المصري محمد مرسي ورئيس المكتب السياسي لحركة حماس خالد مشعل، وكلاهما من تربية الإخوان، ومدرسة حسن البنا، نتج عن الربيع العربي الذي «سيفتح صفحات الخلافة».

قبل هنية، كان حمادي الجبالي في تونس، وتحديدا في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2011 وفي خطبة حماسية في مهرجان احتفالي لحركة النهضة في مدينة سوسة، بشر الجبالي الجميع ببداية الخلافة الراشدة السادسة.

أما الشيخ عبد المجيد الزنداني، أحد رموز الحركة الإسلامية المسيّسة في اليمن، فكان أكثر شاعرية وهو يقول للحشود المتظاهرة في صنعاء ضد نظام علي عبد الله صالح، إنه يرى صباح الخلافة الإسلامية يطل من كل مكان في العالم الإسلامي، وكرر هذا الكلام في حوار سابق مع صحيفة «الرأي» الكويتية، حيث قال إن فوز محمد مرسي في مصر هو مبشر ببداية الخلافة الإسلامية.

وسار على الدرب نفسه رموز أقل أهمية في سياق الحركات الإسلامية، مثل المثقف الإخواني «الدولي» كمال الهلباوي، الذي كرر في الأسابيع الأخيرة، ولأكثر من مرة، الدعوة لتحالف دول الربيع العربي التي يسيطر عليها الإخوان المسلمون، تحديدا تونس ومصر، وكان يراهن في ما أظن على ليبيا أيضا قبل نتائج الانتخابات الأخيرة، ودعا إلى قيام الخلافة الإسلامية، وإن كان قدم لها تفسيرا بها مسحة عصرية للتطمين، على غرار الاتحاد الأوروبي واللاتيني، كما راق له التشبيه - مع أنه بالفعل هناك منظمة التعاون الإسلامي موجودة! وهو لا يخفي أن إيران ستكون ضلعا رئيسيا في هذا الاتحاد الإخواني، بل وعاتب الإخوان في مصر على عدم «الهرولة» الثورية تجاه حليف الأمس القريب، خامنئي.

إذن نحن أمام حالة تتجاوز الثورة المدنية أو الديمقراطية ضد الاستبداد والفساد والتوريث، وأننا أمام تيار مدني تنموي «فقط»، لا نحن أمام حركة وتيار ينطوي على أحلام تاريخية وملحمية خطيرة، وخطورتها هي في غموضها، واستثارتها للعواطف التاريخية والدينية من أجل البقاء في الحكم، فمن يجرؤ على نبذ بيعة «الخليفة» أو مناهضة مشروع الخلافة، حيث يكون مرسي، كما قال مريده صفوت حجازي، في مهرجان سابق، هو في موقع رئيس الولايات المتحدة الإسلامية التي ستكون عاصمتها القدس، وليس القاهرة. خطير هذا التفكير «الأممي» الإخواني الكافر بالحدود القائمة كما هي، المتعامل معها فقط على سبيل الاضطرار، كما قال الهلباوي أيضا في حوار سابق مع قناة «الجزيرة مباشر» إن مصر مجرد ولاية فرعية في دولة الولاية العظمى، أي الخلافة. صحيح أنه قال هذا الكلام في سياق تسويغ تولي المرأة في مصر لبعض المناصب، وأن الولاية الممنوعة منها شرعا هي في ما يخص الولاية العظمى، لكن هذا التبرير أفدح في النتيجة والأثر، من الموقف «الطري» فقهيا الذي قاله حول ولاية المرأة في مصر، وليتنا سلمنا من هذه الهدية الفقهية الملغومة!

وهكذا، فإن حلم قيام الخلافة الإسلامية، حلم ممزوج بدماء حركة الإخوان منذ البداية، وهو «الرمح المقدس» الذي رفعوه في وجه خصومهم، واستجلبوا به الأنصار، ممن تحركهم مثل هذه الأحلام الإمبراطورية، مثلما حركت جماهير هتلر الألمانية أحلام «الرايخ الثالث»، أو الأحلام الرومانية للدوتشي موسوليني في إيطاليا.

حركة الإخوان انطلقت في الإسماعيلية بمصر عام 1928، أي بعد أربع سنوات من الإعلان الرسمي في تركيا عن سقوط الخلافة العثمانية وقيام الجمهورية عام 1924، الأمر الذي ما زال أثره النفسي والفقهي والفكري والسياسي يعيش معنا إلى الآن، إن جزءا من شظايا ذلك الحدث الكبير، هو حركة الإخوان المسلمين، وحزب التحرير، وغير ذلك كثير.

من الأسباب الجوهرية لقيام حركة حسن البنا، استعادة هذه الخلافة «المقدسة» في تصورهم، واستعادة «الأستاذية» على العالم، من خلال تسنم الإخوان للسلطة وترويج فكرة حسن البنا عن العالم والدولة والمجتمع، وفي وقت سابق من العام الماضي، عام الفورة الثورية، تحدث الدكتور محمد بديع، المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، في واحدة من رسائله الأسبوعية قائلا: «إن الجماعة أصبحت قريبة من تحقيق غايتها العظمى والتي حددها حسن البنا، مؤسس الجماعة، وهي أستاذية العالم».

نحن أمام «تيار» انقلابي ملحمي مسكون بأوهام التاريخ، على الأقل هذا هو الخطاب الآيديولوجي الذي برر بقاءهم طيلة هذه السنين، وهو الغاية الجوهرية من وجود هذه الجماعة، فليترفق بنا بعض الطيبين من الهاتفين ببراءة عن الديمقراطية والمدنية، وجماعة: «نعطيهم فرصة ونشوف»! القصة أخطر وأبعد غورا من هذا الفهم الآني.

في ذلك التاريخ 1924 الذي رافق يقظة الأحلام السياسية الانتهازية لوراثة عرش بني عثمان، كان هناك رجال من العقلاء والمستنيرين في مصر وغيرها، وضعوا الأمور في نصابها وكشفوا الأطماع المتخفية بغطاء الدين والأوهام.

لم يكن المعاصرون لدولة بني عثمان، أو لدولة العباسيين، أو الأمويين، وكل السلطنات الإسلامية، يرون فيها ذلك الألق، والإشعاع الإلهي، والرمز الرومانسي، كما يحاول كتاب التاريخ الجدد من وعاظ التلفزيون و«الحكواتية» أن يروجوه عن التاريخ.

لقد رأى فيها معاصروها سلطة زمانية لا روحية، يحق لهم أن يختلفوا معها، أو حتى يثوروا عليها، والمفارقة أن أكثرهم حينما يثور عليها يفعل ذلك باسم الله والشرعية، على الأقل ظاهريا، ثم حينما يتولى مقاليد الأمر، ويذوق حلاوة السلطة، ويدخل في شرطها، يصبح هو نفسه عرضة للنقد الديني بحجة عدم استكمال المشروعية أو فقدانها.. وهكذا دواليك، هذه هي «حدوتتنا» التي لا تنتهي!

ممن حاول أن يكسر هذا القيد العقلي، ويشك بالونة الوهم بدبوس السؤال، الشيخ الأزهري التنويري الشجاع علي عبد الرازق (1966)، وكتب كتابه المهم «الإسلام وأصول الحكم»، الذي أصبح هدفا للهجوم القاسي من الجميع، بداية من الأزهر الذي رد عليه وسحب منه شهادته العالية، ثم من حلفاء الملك المصري الذي كان يطمح إلى أن يرث لقب الخلافة بعد أفول شمس بني عثمان، ومن دراويش وهم الخلافة ومؤسطريها، لكن إلى الآن لم يتم الجواب عن أسئلة الشيخ الذي قال ببساطة: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعثه الله رحمة للناس، وهو رسول هداية ونعمة أهداها الله للبشر كلهم، وليس ملكا مشغولا بتأسيس دولة. واستشهد بنصوص من السنة والتاريخ.

قال في كتابه الفارق هذا: «أنت تعلم أن الرسالة غير الملك، وأنه ليس بينهما شيء من التلازم بوجه من الوجوه، وأن الرسالة مقام والملك مقام آخر، فكم من ملك ليس نبيا ولا رسولا، وكم لله جل شأنه من رسل لم يكونوا ملوكا، بل إن أكثر من عرفنا من الرسل إنما كانوا رسلا فحسب».

لكن أطماع السياسة تجد دوما لها من يحميها ويغرف لها من معين المقدس ومشاعر الناس النقية. وهذا بالضبط ما يفعله الآن خطباء ووعاظ وكتاب الإخوان ومن لفّ لهم، في هروب إلى الامام من سؤال الدنيا إلى شعار الدين. لا جديد تحت الشمس!

[email protected]