عما هو جهل وما هو استباحة

TT

كان الراحل شفيق الحوت يتحدث مرة في الأمم المتحدة عن خدمة جديدة تقدمها مؤسسة الدراسات الفلسطينية وهي رصد صحف إسرائيل، وقال: إن ذلك سابقة عند العرب الذين يفضلون الانغلاق ولا يهتمون لمعرفة شيء من عدوهم، وكان رأيي أن ذلك سيف ذو حدين، ويحتاج إلى من يدقق في النشر، فالقارئ العادي غير قادر على التمييز، وقد يؤخذ بالدعاية أكثر مما ينتبه إلى الدس، وكان رد الحوت، وهو صحافي أولا، أن هذه نقطة شديدة الأهمية سوف يلفت إليها أنظار القيمين على جهاز الترجمة.

نشرت زميلة عربية قبل أسابيع في صفحة الترجمات عن العبرية مقالا عن ياسر عرفات وعدائه لإسرائيل، ورد فيه ذكر كتاب صدر في الثمانينات، ويروي أنه خلال زيارة إلى بوخارست سجلت المخابرات الرومانية لقاء بين أبو عمار وأحد معاونيه، وقرأت يومها عن الكتاب في صحيفة «وول ستريت جورنال»، وأول ما خطر لي أن آخر إنسان في آخر العالم يعرف أن مخابرات تشاوشسكو تسجل أنفاس الناس في الفنادق والمطاعم والمقاهي وغرف النوم، فهل كان ذلك خافيا على أبو عمار وجهاز حمايته؟

ثاني ما خطر، أن تشاوشسكو كان شريكا لإسرائيل، وأن الكتاب كان جزءا من حملة لا نهاية لها لتشويه صورة الزعيم الفلسطيني، ألم يخطر للزميلة العربية وهي تنشر كلام الصحيفة العبرية أن استعادة ذكر اللقاء المزعوم في بودابست هو جزء مستمر من الدعاية الإسرائيلية ضد الرجل الذي أحيا في وجهها القضية الفلسطينية، سياسيا وإعلاميا وحربا؟ وإذا كانت صحيفة إسرائيلية نشرت هذا الكلام بعد سنوات على وفاة عرفات، لمناسبة التحقيق في أسباب الوفاة، فهل من المناسب أو اللائق أن تكرره صحيفة عربية بدافع «الموضوعية» والعمل الصحافي؟ بل باختصار، كان ذلك مؤلما لذكرى ياسر عرفات.

صحيفة إسرائيلية تستغل ادعاء شائنا، يستند إلى رواية نظام شائن، عن حكاية مزعومة، يقال: إنها وقعت قبل ثلاثين عاما في عاصمة تشاوشسكو، فما الحكمة من نقلها في صحيفة عربية؟ أدهى أنواع الحروب، هي حرب التمويه والأكاذيب، والمؤسف أن التدقيق في المعلومات ثقافة غير موجودة في الصحف العربية ولا في حياة العرب، وكل عربي مستعد لتصديق أي إشاعة ما دامت عن خصمه وهو يفرك يديه طربا، ثم لا يلبث أن يكتشف أن الإشاعة نفسها تضربه، فيحول يديه إلى لطم وجهه.

عشنا نصف القرن الماضي في عالم مموه لا حقائق فيه، أرقامنا كاذبة واتهاماتنا كاذبة ووعودنا كاذبة، وتعودنا ألا نطرح التساؤل حول أي شيء، من أي مكان أتى، وليس لدي أي شك في نية إعادة نشر ما ورد في الصحيفة العبرية، لكن حسن النوايا لا يحول دون الأخطاء أو الأذى، ثمة حال ثالثة ما بين الرقابة الغبية وثقافة التجميل، وما بين استباحة النشر والضوابط وحتى اللياقات.