«الكبسة» أقوى من «الكيماوي»!

TT

في زمن «الربيع العربي» كنت أعتقد أن نسبة مشاهدة برامج «التوك شو» السياسية هي الأعلى، وأنها الأكثر متابعة من قبل جماهير أمتنا الصبورة، حتى طالعت إحصاءات وقياسات المشاهدة، فاكتشفت أن برامج الطهو هي الأكثر شعبية!

ويبدو أن برامج الطهو - بالذات التي تكون على الهواء - هي الأكثر استحواذا على عقول وقلوب وبطون الجماهير! ففي حالة برامج الطهو المباشرة يستطيع المشاهد أو المشاهدة أن يتواصلوا مع «الشيف» الطباخ الماهر، ويغوصوا معه في أعماق أسرار الطبخة التي يقدمها، أو يستفسروا منه عن طرق عمل أطباقهم المفضلة.

ويبدو أن قائمة كبار مذيعي «التوك شو» السياسية ليست هي الأهم، بل إن «المقدم الشيف» أكثر أهمية من «المحاور السياسي»، لذلك سوف نكتشف أن الشيف رمزي والشيف حسن والشيف شربيني والشيف حورية والشيف الجدة «أطبخ مع التيتة» والشيف أسامة والسيدة منى عامر والخواجة ايمريل لاجاسي وجاي فيرري والشيف الصيني (يان) هم الأكثر شعبية. هؤلاء أكثر شعبية من كل نجوم «التوك شو» السياسيين، لأن المادة التي يقدمونها تبعث على الأمل والمتعة واللذة، بينما «التوك شو» السياسي يصدر لك اليأس والغضب والإحباط والاكتئاب. أيهما أفضل؛ أن نتحدث عن المواد الكيماوية الموجودة لدى النظام السوري، أم أن نقدم حلقة مطولة عن الفتة الشامية والكبة الحلبية والكنافة النابلسية أو ورق العنب بالكراعين أو حراق أصبعه؟ أيهما أفضل؛ أن نقدم حلقة مطولة عن صراع المجلس العسكري وجماعة الإخوان في مصر أم طريقة عمل الكشري المصري، أو مسقعة الباذنجان أو الحمام المحشو بالأرز والصنوبر وكبد الحمام، أو نتعمق في طريقة عمل البسبوسة المصرية أو أرز اللبن المطهو على الطريقة الإسكندرية؟ أيهما أكثر لطفا؛ أن نتحدث عن مشكلات المغرب العربي من تونس إلى الجزائر ومن المغرب إلى ليبيا، أم نقدم وصفات لعمل الحريرة والباستيلة والطاجين والأنواع المتعددة من الكسكس، بدءا من كسكس اللحم والدجاج والأسماك إلى الكسكس الحلو؟!

أيهما أكثر متابعة للمواطن الخليجي؛ أسعار النفط والغاز والبورصات والعقارات، أم متعة وبهجة معرفة طرق طهو أنواع البرياني والكبسات والمحاشي والكبدة الحارة والمبشور المكي والمطازيز والسليق بأنواعه، وعمل البسبوسة على طريقة أهل المدينة المنورة؟

الناس «زهقت» من الدماء والانقسامات والاغتيالات المادية والمعنوية، والأكاذيب والإشاعات، والوعود الخادعة، والتصريحات المشكوك فيها، والأخبار العارية من الحقيقة والتحليلات السياسية المدفوعة الأجر، والمصادر المجهولة والشتائم والسباب المتطاير عبر الفضاء! ليس في برامج الطهو كذب أو خداع أو دماء، يوجد فقط مقادير وطرق ووصفات ونتيجة نهائية يستطيع الإنسان داخل منزله أن يتأكد منها حينما تأتي لحظة التذوق.

الهروب إلى الطعام أفضل من الهروب إلى الشراب - والعياذ بالله - أو اللجوء إلى الأدوية المضادة للاكتئاب. نحن في زمن تعتبر فيه قناة «فتافيت» أقل ضررا من «الجزيرة»، وتصبح «الكبسة» أكثر تأثيرا من السلاح الكيماوي السوري!