المشهد الأخير في سوريا

TT

لا أدري ما إذا كانت الأحوال الدموية في سوريا سوف تكون باقية ساعة نشر هذا المقال؛ أو أن المشهد السوري سوف يكون قد وصل إلى نهايته المحتومة بمقتل أو هروب أو اختفاء الرئيس بشار الأسد، وبداية دخول الدولة السورية إلى مرحلة جديدة لا تقل صعوبة وخطورة عن سابقتها، وهي ما باتت معروفة في أدب «الربيع العربي» باسم المرحلة الانتقالية. بدأ المشهد الأخير بتلك العملية «النوعية» التي أطاحت بنصف قيادات الدفاع والأمن في سوريا؛ وعلى الأرجح فإن هذه العملية لن تكون مثل «فالكيري» التي حاول فيها روميل وعدد من الجنرالات الألمان التخلص من هتلر فتمثل إشارة النهاية، حيث استمرت الحرب عاما آخر؛ وإنما سوف تكون النهاية نفسها التي عندها يسقط النظام السوري وتبدأ بعدها سوريا مرحلة جديدة من تاريخها.

والحقيقة أنه بات الآن ممكنا الوصول إلى أنماط عامة وأخرى خاصة جرى التعبير عنها في الدول العربية فيما سمي بالربيع العربي؛ فحيث تكون الدولة قوية والجيش محترفا فإننا نحصل على ذلك النمط الذي جاء في تونس ومصر، فتنتهي الثورة بسرعة، ويسقط النظام ولكن الدولة تبقى، أما الأطراف السياسية، بما فيها الدولة ذاتها، تدخل في عملية مساومة طويلة لإنجاز بناء الدولة على أسس جديدة. النمط الثاني عندما تكون الدولة ضعيفة والجيش أقل احترافا وكلاهما منقسم إلى قوى متعادلة على أسس قبلية؛ في هذه الحالة يمكن بعد نزف دماء، ونتيجة الخوف من الحرب الأهلية، أن نصل إلى «الحل اليمني» حيث يذهب الرئيس وبطانته، ويبقى النظام تقريبا بعد إضافة بعض سمات الديمقراطية عليه. والنمط الثالث عندما تحتكر السلطة جماعة عرقية، أو آيديولوجية، أو حزب واحد، أو قائد يعتقد في وجود حقوق إلهية له على شعبه؛ هنا فإن الجنون ينتصر على الحكمة وتجر البلاد جرا إلى حرب أهلية بالفعل تنزف فيها الدماء غزيرة، وينتهي الأمر بدخول جيش الثوار إلى العاصمة في مشهد يجمع بين الانتصار عندما يذهب الزعيم أو يقتل، والتدمير حيث تكون إزاحة السلطة الفاشية بثمن فادح كما جرى في ليبيا ويجري الآن في سوريا. والنمط الرابع في النهاية يحدث عندما تكون الدولة متماسكة وخائفة من الثورة؛ ولكنها عاجزة عن الإصلاح حتى تتجنبها، ومن ثم يتولد نمط من القلق والأحداث الثورية المتقطعة والعنف غير المستدام، التي تستمر لفترة طويلة تسمح بالتدخل الأجنبي، والأمثلة موجودة في السودان وموريتانيا على اختلاف حدة التناقضات والتمايزات فيما بينها، ولكنها في النهاية لا وصلت إلى ربيع الثورة أو صيف الاستقرار.

الحالة السورية واقعة بالتأكيد في النمط الثالث من أنماط الربيع، وهي أشدها وحشية، وأكثرها دموية، ولكنها أيضا أكثرها تعبيرا عن فاشية «قومية» دامت لفترة طويلة، تتمتع بدرجة غير عادية من الغرور والجنون أيضا. ولذلك فإن رد الفعل يكون قاسيا، وفي العادة يجري انقسام الدولة، والجيش، والجماعة السياسية، وينتهي رئيس الدولة عادة في مشهد مأساوي. السوابق هنا معروفة في العراق، وفي ليبيا، والآن فإن الحالة السورية لا تختلف كثيرا، حيث تشققت الدولة من حول حزب البعث، ففر من فر واختفى من اختفى، وانقسم الجيش إلى واحد نظامي وآخر حر، وتفرقت الجماعة السياسية بين أغلبية ذاقت المر على مدى عقود وتظن أنه جاء وقت الانتقام، وأقليات مرتجفة ظنت أن حمايتها من الأغلبية تأتي من حضن النظام الباغي، فتجد نفسها واقعة بين شقي رحى، وخيارات أحلاها مر وعلقم.

المدهش أن هذه النوعية الأخيرة من النظم كثيرا ما عاشت على شرعية «القضية الفلسطينية»، والذود عنها ضد مؤامرات دولية شتى، ولكن «القضية» عادة أمر، والفلسطينيون أمر آخر، فهؤلاء مطلوب منهم التبعية المطلقة للنظام الذي بقي صامدا حتى لا تجري تصفية القضية. ولكن عندما تأتي ساعة الثورة التي هي في حقيقتها في هذا النمط من التغيير على الأقل لا تنتمي للربيع بصلة، وإنما تجتاحها الخشونة والغلظة في مواجهة نظام لا يرحم، فإن الفلسطينيين في النهاية يصبحون بين شقي رحى: بين النظام الذي يرى أن وقوفهم بجانبه من الأمور المنطقية، والثوار الذين يرون أنهم دفعوا ثمنا فادحا لقضية لا تصل أبدا إلى حل، بينما أبناؤها وقعوا دائما داخل صفوف نظم طاغية. النتيجة هي أن المشهد الأخير يشتمل دائما على خروج جديد للفلسطينيين جرى من قبل في العراق، وليبيا، والآن نشهده في سوريا، حيث قتل 300 فلسطيني على الأقل قبل سقوط دمشق برصاص النظام والثوار في آن واحد.

ولكن ذلك مشهد جانبي على أي حال مهما كان تراجيديا؛ أما المشهد الأصلي فهو لحظة دخول الجيش الحر إلى دمشق، والذي سوف يكون مشهدا تاريخيا لا يقل في تاريخيته عن دخول الجيش العربي إلى دمشق في نهاية الثورة العربية الكبرى، أو استقرار الانقلابات السورية على حكم البعث منذ عام 1971 حينما قام حافظ الأسد بحركته التصحيحية التي ظلت تصحح الأوضاع في سوريا على مدى أكثر من أربعة عقود دون نتيجة سوى حالة مرعبة من الفاشية والتوريث للحكم.

هل ستكون لدينا طرابلس أو بغداد أخرى فيكون الاجتياح في دمشق والبحث عن أزلام النظام الذي يجري أفراده كالفئران المذعورة في كل اتجاه بينما تتملك الشعوب حالة من اللوثة الجماعية التي تجعل القتل والتمثيل بالجثث أمرا يشفي غليل ظلم المعتقلات والتعذيب؟ وقت كتابة هذه السطور لم يكن المشهد مختلفا، كان النظام يقصف دمشق من كل الاتجاهات كما لو أنها لم تكن عاصمته الفيحاء يوما، ويبدو الأمر كما كان وقت هتلر قبل انتحاره، حيث كان انتقامه من الشعب الألماني وبرلين خاصة مروعا. وكذلك، وبالطبيعة، كان ما يفعله الثوار حيث لا تنتهي الثورة إلا بسقوط النظام والعاصمة.

حتى الآن فإن ما نسمعه من قادة الثورة يثلج القلب، فالأمور كلها على ما يرام، وسوف يتم تطبيق القانون فقط لا غير، وسوف تلتقي الأغلبية مع الأقليات على أساس من المواطنة، وبعد ذلك سيكون دستور جديد ديمقراطي يقيم العدل ويعدل الميزان ويجري فيه تداول السلطة بسلاسة في ظل شعب سعيد ينعم بموارده الكثيرة. نتمنى أن يحدث ذلك بالطبع، ولكن السوابق لا تدل على ذلك، وربما كانت هناك سابقة جديدة، والأفضل أن يكون هناك احتراز وتحوط منذ البداية. وإذا كانت الجامعة العربية قد دخلت في الأزمة السورية، وربما تعلمت من الأزمة الليبية، فالأجدر بها أن تكون هناك في دمشق في صورة سياسية، أو عسكرية إذا لزم الأمر حتى يجري انتقال السلطة بشكل سلمي. ربما يكون ذلك عزيزا على الحدوث، ولكنه نوع من التمنيات على أي حال.