شهر الفكر في البحرين

TT

أصبح واضحا من كل هذه الخضات بل والزلازل التي يتعرض لها العالم العربي أن هناك جذورا عميقة للمشكلة، جذورا تضرب في أعماق التاريخ، ولا يكفي التحليل السياسي للكشف عنها، ناهيك بتشخيصها وحلها. وحده التحليل الثقافي العميق يمكن أن ينزل إلى الطبقات التحتية للتاريخ العربي الإسلامي لكي يقبض عليها. لذلك أقول إن الحلول السياسية، على أهميتها، لا تكفي، وإنما ينبغي أن ترافقها حلول أو إضاءات ثقافية. بالأمس القريب كنت في البحرين للمشاركة في «شهر الفكر» ضمن إطار الاحتفالات الجارية بالمنامة كعاصمة للثقافة العربية 2012. وهي الاحتفالات التي تشرف عليها بكل إشعاع فكري، وتوهج شخصي، وفعالية منهجية وزيرة الثقافة الشيخة مي. وقد أتيح لي أن أتحدث عن هذه الهموم التي تؤرقنا بعد كل من أستاذنا الكبير محمد جابر الأنصاري والدكتورة المثقفة زهيدة درويش.

لن أستعرض هنا كل ما قيل في تلك الندوة لأن ذلك يتجاوز حدود مقالة واحدة، وإنما سوف أقول إنه كان هناك إجماع على أهمية العامل الثقافي في حل مشاكل العرب الحالية وما أكثرها. بل وسبقنا إلى هناك الأمين العام لمؤسسة «الفكر العربي» الدكتور سليمان عبد المنعم بأيام قلائل وركز على الموضوع ذاته. وكانت مداخلته تحت العنوان التالي: «الأولويات الغائبة في البحث عن مشروع ثقافي عربي». كل هذا دليل على أن المثقفين العرب أصبحوا يدركون جيدا أن التحليل الصحافي السريع حتى ولو كان رصينا ذكيا، لا يكفي لتشخيص الداء العضال الذي ينخر في أحشائنا منذ قرون. لا ريب في أن المؤتمرات السياسية مهمة وضرورية. ولكنها كشفت عن عدم قدرتها على تشخيص المشكلة الطائفية أو العرقية اللغوية التي تهدد أقطار العرب حاليا بالتمزيق والتقسيم والحروب الأهلية المدمرة. ولذلك فقد تفشل لأن الحل الثقافي يسبق عادة الحل السياسي وليس العكس. هذا ما حاولت أن أشرحه في مداخلتي التي اتخذت العنوان التالي: «من دمشق إلى باريس: تأثير الأنوار الفرنسية على ثقافتي وتكويني».

هنا أيضا لن أستعرض كل ما قلته في تلك المداخلة المطولة، وإنما سأركز فقط على النقطة التالية: ماذا فعل مثقفو أوروبا عندما كانت بلادهم تشتعل بالحديد والنار والصراعات الطائفية والمذهبية؟ هل قالوا إن الحق على الطليان؟ أم قالوا إن الدودة في الثمرة، وإن العلة منا وفينا؟ أتمنى أن أجد سياسيا عربيا واحدا يعترف بأن هناك مشكلة داخلية حقيقية بدلا من أن يتحفنا بهذا الخطاب المتخشب الأجوف الذي لم يعد يقنع أحدا. إنه لأمر مزعج فعلا: الواقع العربي في جهة، وخطابات المثقفين والسياسيين في جهة أخرى! هناك استثناءات بالطبع لحسن الحظ. فخطاب الحقيقة ليس غائبا عن الساحة الصحافية أو الثقافية العربية.

ولكن بشكل عام، هناك سيل من المقالات المتدفقة التي لا تضيء شيئا. هناك إسهال قلمي، إذا جاز التعبير. عندما اطلعت على تجربة المثقفين الأوروبيين وجدت العكس تماما. إنهم يسمون الأشياء بأسمائها دون أي لف أو دوران. إنهم يتصدون للمشاكل الحقيقية التي كانت تمزق مجتمعاتهم وجها لوجه ويدفعون الثمن. ولهذا السبب نجحوا في تشخيص الداء ووصف العلاج. وكان أن انطلقوا وازدهروا وتجاوزوا أخطر المشاكل. وكان أن أسسوا دولا مدنية حديثة تحترم جميع المواطنين دون استثناء وتساوي بينهم في الحقوق والواجبات بغض النظر عن أصولهم العرقية أو الدينية أو المذهبية. وهنا تكمن ثورة الفكر والثقافة. هنا تكمن قطيعة الحداثة الكبرى.

قد يقول قائل: ولكنك شخص تعجيزي تطالب مجتمعاتنا بتحقيق قفزة نوعية لم تستطع أوروبا تحقيقها إلا بعد أربعة قرون؟ كما تريد من المثقفين أن يعرضوا أنفسهم للمخاطر والمشاكل. وهم بأمس الحاجة إلى التنعم بالحياة الرغيدة لكي يتحفونا بنظرياتهم وإبداعاتهم الخلاقة! وأجيب: لا، لا أريد حرق المراحل، وإنما على الأقل البدء بطرح الأسئلة الجدية على الذات التاريخية. لماذا غامر فولتير بنفسه وطرح هذه المسائل على التراث المسيحي الذي نشأ في أحضانه وتشربه مع حليب الطفولة؟ ألم يكن عزيزا عليه هذا التراث؟ ألم يكن مقدسا معصوما؟ ومع ذلك فقد تجرأ على تشريحه وتفكيكه بشكل عقلاني لكي يطهره من الانغلاقات اللاهوتية والعصبيات الطائفية التي دمرت فرنسا في القرنين السادس عشر والسابع عشر. ومعلوم أنها لم تستطع تشكيل وحدتها الوطنية وتضميد جراحاتها إلا بعد تجاوز المشكلة الطائفية الرهيبة. وقل الأمر ذاته عن جان جاك روسو الذي تحتفل سويسرا وفرنسا والعالم كله به حاليا بمناسبة الذكرى المئوية الثالثة لولادته (1712 - 2012). ألم يعرض جان جاك روسو نفسه للمخاطر؟ لقد وضع نفسه على حد السكين وكادوا يغتالونه أكثر من مرة. لقد نغصوا عيشه وأقضوا مضجعه إلى درجة أنه عندما مات شعر بارتياح لا مثيل له.

كفى بك داء أن ترى الموت شافيا

وحسب المنايا أن يكن أمانيا

فماذا يستطيعون أن يفعلوا به بعد أن مات؟ مشكلته ما كان ممكنا أن تحل إلا بالموت. والملاحقات، إن لم نقل المطاردات المسعورة، ما كان يمكن أن تتوقف إلا بعد أن يلفظ أنفاسه الأخيرة.

ولكن هذا الشخص الذي حرقت كتبه في معظم العواصم الأوروبية دفعة واحدة والذي هرب من باريس إلى سويسرا، ومن سويسرا راح يعتصم بالجبال، ومن الجبال إلى إنجلترا.. هو الذي دشن العصور الحديثة. لم يكن جان جاك روسو يمتلك الشقق الفارهة في باريس أو لندن والبلدان العربية. ولم يكن يحصد الجوائز عربيا ودوليا، يمينا وشمالا كيفما اتفق. ولم يعرف رغد العيش والحياة المستقرة. وإنما كان مطاردا، ملاحقا، منبوذا. لقد قصموا ظهره دون أن ينحني! ولكن يكفي أنه استشرف الآفاق وشق طريق المستقبل للشعوب الأوروبية.. يكفي أنه كان الرادار الكشاف الذي يستبق العصور ويرى ما لا يرى بالعين المجردة.. «لو أني أردت أن أكون نبيا من كان سيمنعني؟». يكفي أنه ضرب المثل الأعلى على النزاهة الشخصية والاشتعال المفعم بحب الحقيقة.