الأسد ونافذة «المخرج الحضاري»

TT

مسار أحداث «الربيع العربي» حتى الآن يجعل الرئيس التونسي السابق زين العابدين بن علي «الأعقل» بين أقرانه الذين أطاحت بهم رياح هذا الربيع أو تكاد، لأنه عندما اشتدت الضغوط من الشارع وخلف الكواليس، قال كلمته الشهيرة «فهمتكم» وجمع أسرته ورحل. الآخرون لم يفهموا بتلك السرعة، أو لم يفهموا بتاتا، فتعقدت الأمور وسالت دماء غزيرة قبل أن يجبروا على الرحيل، مبارك إلى السجن والمحاكمة، والقذافي إلى الأسر في أنبوب المجاري ثم القتل بأبشع صورة، وعلي عبد الله صالح إلى المستشفى للعلاج من آثار محاولة اغتيال كادت تودي بحياته قبل أن يقبل بالمبادرة الخليجية لتسليم السلطة لنائبه. أما الرئيس السوري بشار الأسد فلا يزال يتشبث بالسلطة بينما الساعة الرملية تؤذن له بالرحيل قبل أن تغلق نافذة «الخروج الآمن»، أو «الحضاري» كما وصفه حلفاؤه الروس.

سوريا تتأرجح في الوقت الراهن بين سيناريو اليمن والنموذج الليبي في فصله الأخير. فبينما يصعد النظام عملياته العسكرية رغم البوادر على أنه بدأ يفقد السيطرة، تبرز بعض التسريبات والمؤشرات التي توحي بأن هناك تحركات متسارعة من وراء الكواليس لإيجاد «صيغة مقبولة» تقنع الأسد بالرحيل، وهي تحركات مدعومة بالضغط العسكري والأمني مع نقل المعركة إلى مركز السلطة في دمشق، وإلى مركز الثقل الثاني في حلب، وكذلك بعد تصفية كبار قادة «خلية الأزمة» في عملية مزلزلة استهدفت عصب النظام وأعصابه.

أكثر ما يسترعي الاهتمام في هذا الصدد كانت التصريحات المفاجئة للسفير الروسي في باريس ألكسندر أورلوف التي قال فيها إن الرئيس السوري مستعد للتنحي «ولكن بطريقة حضارية»، مضيفا أنه من الصعب تصور أنه سيبقى في السلطة وهو يدرك ذلك. ورغم أن الخارجية الروسية سارعت للتخفيف من وقع تصريحات سفيرها بالقول إنه تم تحويرها، وهو ما لا يرقى إلى درجة نفيها بشكل قاطع بل يترك المجال للتفسيرات، فإن الكثيرين توقفوا أمام هذا الانقلاب في الموقف الروسي، لا سيما أن السفير لم يقل هذا الكلام مرة واحدة، بل كرره في تصريحين منفصلين أحدهما لإذاعة فرنسا الدولية والثاني لصحيفة «لو باريزيان». حتى تصريحات الرئيس بوتين أول من أمس لم تضع حدا للتأويلات حول «المخرج الحضاري»، إذ إنه حذر من أنه إذا تم إسقاط القيادة الحالية «بشكل غير دستوري» فإن سوريا قد تواجه حربا أهلية طويلة المدى بسبب ما وصفه بتبادل الأدوار، بحيث تصبح المعارضة في الحكم بينما يتحول النظام إلى المعارضة. فبوتين لم يبد رافضا كليا لإمكانية سقوط القيادة الحالية، بل حذر فقط من أن يتم ذلك بشكل غير دستوري، تاركا الباب مواربا أمام إمكانية «التنحي الدستوري»، وهناك عدة صيغ يمكن أن تدخل تحت هذا العنوان من الاستقالة إلى الحوار ضمن صيغة «الخروج الآمن».

في هذا الإطار يمكن أيضا قراءة تصريحات العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني قبل أيام، التي دعا فيها الأسد وأركان نظامه لاغتنام الفرصة الأخيرة المتاحة لهم حاليا والخروج من المشهد والترتيب لانتقال السلطة لتجنيب سوريا خطر الحرب الأهلية. فالعاهل الأردني تحدث عن «نافذة الحل السياسي» التي تكاد توصد مع تصاعد العنف، محذرا من أننا على وشك تجاوز تلك الفرصة إن لم نكن قد تجاوزناها بالفعل. وهو عندما يحذر من تجاوز الفرصة فإنما يستذكر أن الأسد تجاهل مثل هذه الدعوات في السابق ومضى في طريق الحل الأمني والعسكري، رافضا الرضوخ لما يصفه بـ«العمليات الإرهابية المدعومة من الخارج»، ومراهنا على أن قواته يمكنها أن تسيطر على الوضع عسكريا بينما يتصدى حلفاؤه في الخارج للدبلوماسية الدولية الرامية إلى خنق نظامه وتمكين المعارضة من إطاحته. لكن الوضع اليوم يبدو مختلفا عما كان عليه قبل ثمانية أشهر عندما دعا العاهل الأردني لأول مرة الرئيس السوري إلى التنحي حفاظا على مصلحة شعبه، فالنظام يبدو أضعف، وقبضته الأمنية والعسكرية تتراخى تحت ضغط الحصار والعمليات العسكرية التي تشنها قوات المعارضة التي تتلقى دعما متزايدا وتبدو أكثر تنظيما وعدة وعتادا، وتستفيد في تحركاتها من تقارير استخباراتية تزودها بمعلومات دقيقة عن مواقع القوات السورية وتحركات قياداتها.

هكذا يبدو أن الدعوة الصادرة عن الاجتماع الاستثنائي للمجلس الوزاري العربي يوم الأحد الماضي لتنحي الرئيس السوري مقابل توفير مخرج آمن له ولأسرته، لم تأت من فراغ، بل تستند على التطورات المتسارعة على الأرض، وعلى الإيحاءات الروسية بأن الأسد ربما بات مستعدا لقبول «مخرج حضاري». فالمبادرة تتحدث عن تنحي الرئيس السوري لا عن تنحية النظام بسائر أركانه، وتشير إلى ترتيب الانتقال السلمي للسلطة لا إلى انتزاعها واقتلاع النظام كليا، كما تدعو إلى تشكيل حكومة انتقالية تضم المعارضة و«الجيش الحر» و«سلطة الأمر الواقع». وبهذا تبدو المبادرة أقرب إلى النموذج اليمني، وإن كانت قد تجاوزت صيغة نقل السلطة إلى نائب الرئيس التي تبنتها قبل أشهر، لأن الأحداث تخطتها مثلما تجاوزت فاروق الشرع الذي لا يبدو أن المعارضة ستقبل به مثلما قبلت المعارضة اليمنية بعبد ربه منصور هادي.

الأزمة السورية دخلت منعطفا حاسما ستتحدد فيه معالم الحل؛ إما أن يكون عسكريا على طريقة قاتل أو مقتول، وإما دبلوماسيا بصيغة معدلة من النموذج اليمني، لكن الفرص المتاحة أمام هذا الخيار الثاني تنحسر بسرعة مع كل يوم تتصاعد فيه حدة العنف الذي يدفع سوريا نحو مخاطر حرب أهلية ستجعل أحداث العراق المأساوية تبدو أقل فداحة. فتركيبة سوريا أعقد من العراق، والمعادلات الإقليمية والدولية فيها أخطر، والانعكاسات السياسية والعسكرية أكبر.

كل من يشفق على سوريا ويريد نهاية سريعة لمعاناة أهلها، يتمنى أن يقرأ الأسد الرسالة ويفهم، ولو متأخرا، أن السلطة لا تستأهل التضحية ببلد وشعب، وأن فرص بقاء نظامه تتراجع يوما بعد آخر في ظل المعطيات على الأرض، وخارج الحدود، بما يجعل «الخروج الآمن» الفرصة الأخيرة لتجنب أسوأ السيناريوهات.

[email protected]