غاندي والعرب والتغيير السلمي

TT

أكتب هذا المقال وأنا في الطائرة المتجهة إلى العاصمة الهندية نيودلهي، وبين يدي سيرة الزعيم الهندي غاندي، التي كتبها بنفسه، وأقرأها للمرة الثانية باستمتاع. وبينما أنا كذلك إذ التفت إلي رجل أعمال هندي كان يجلس إلى جواري، وقال وهو ينظر إلى الغلاف: ما الذي أعجبك في سيرة زعيمنا؟ فقلت: فكرة «المقاومة السلمية» أو التغيير السلمي، حيث إنه نجح في إقناع شعب قوامه مئات الملايين آنذاك (يتحدثون عشرات اللغات المحلية) بفكرة مقاومة المحتل البريطاني سلميا، وذلك بالعصيان المدني الشامل تارة، والاعتصام والمقاطعة والقبول بالسجن تارة أخرى، حتى نجحوا في طرد الاحتلال من بلادهم. وقد ألهمت هذه الفكرة الحركات المدنية والحقوقية حول العالم، لأنها تقوم على فكرة «شجاعة المواجهة.. بلا عنف».

وعلى الرغم من بساطة الفكرة، فإن قوتها في بساطتها، حيث نجح في تحقيق حلمه، ثم صار «رمز الأمة» التي ما زالت تحمل صوره على عملتها الوطنية تخليدا لحكمته ورؤيته الثاقبة. وصار يوم ميلاده (2 أكتوبر «تشرين الأول») يوما وطنيا وعالميا للاحتفال بـ«يوم اللاعنف».

العرب وتحديدا المصريين والتونسيين نجحوا في إشعال فتيل ثورتهم «السلمية»؛ ففر الرئيس التونسي بن علي بعد هذا الضغط الشعبي المتصاعد الراغب في تغيير أحد أكثر الأنظمة العربية القمعية. وسلم حسني مبارك مقاليد الحكم للمجلس العسكري بعد أيام قليلة من الضغط السلمي المليوني، كل ذلك بسبب محاولة التغيير السلمية التي جاءت بعد سنوات من التعبئة الشعبية. وهذا دليل على أن الإنسان يستطيع أن يحقق في الحراك السلمي المدروس في التوقيت المناسب ما تعجز عنه أعتى الجيوش بطائراتها ودباباتها الحربية.

والفكرة نفسها تنطبق على التغيير في سائر مناحي حياتنا. فالبعض يظن أن التغيير يجب أن يكون دفعة واحدة، أو بعنف كالأب أو المعلم الذي يظن أن الضرب سيُقوّم دوما سلوك الأبناء. ونجد أحيانا مسؤولا رفيعا ما إن يتسلم مهام منصبه الوزاري أو الإداري حتى يصدر بيانه الانقلابي «رقم واحد» بفصل فلان أو تدوير علان أو دمج إدارات، قبل أن يفهم طبيعة عمل المنظمة التي يعمل فيها. وهؤلاء المسؤولون الذين لا يؤمنون بفكرة التغيير المنهجي المدروس يظنون أن المواجهة السريعة أفضل، ولا يعلمون أنهم بذلك يفتحون جبهات المواجهة ضدهم، لأن الإنسان يخشى التغيير بطبعه، وإن تظاهر بخلاف ذلك. فهو سيظل متوقعا أن يأتيه الدور قريبا ليتم نقله أو فصله أو تدويره قبل أن يمنح فرصة كافية ليثبت جدارته. والأمر نفسه يحدث مع الحكومة التي تقمع بالعنف شعبها، لأنها تظن أن ذلك يمكن أن يغير سلوكه لتكتشف لاحقا أنها كانت «نائمة في العسل»!

والنبي محمد (صلى الله عليه وسلم) نفسه لم يواجه بعنف مجتمعه المكي الذي لم يتجاوب مع الرسالة السماوية الإسلامية في أول الأمر، وصبر عليهم، واضطر للهجرة من موطنه، ثم وقع معهم صلح الحديبية ليدخل مكة بعدها وهي ترفل بثوب الإسلام. والأمر نفسه حدث مع تجار المسلمين الذين لم يغيروا ديانات الشعوب الآسيوية بحد السيف، بل بأخلاقهم وتعاملهم النبيل.

التاريخ والتجارب العملية حولنا تعلمنا أنه مهما كان هدفنا صعبا في نظرنا أو في نظر المتندرين من حولنا، فإن بلوغه يصبح مسألة وقت، شريطة أن يكون هدفا مدروسا وفي التوقيت المناسب، وما حدث مع سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم) وغاندي وغيرهما لخير مثال على ذلك.

* كاتب متخصص في الإدارة

[email protected]