في وسط الصورة

TT

أحببت أن أنقل لجنابكم كلام هذه الصورة، وليتني كنت أستطيع نقل الصورة نفسها. حول مائدة صغيرة في بيت عادي في قرية كوتونو، جنوب أفريقيا، تبدو من اليمين طفلة جعداء الشعر، ثم طفلة، ثم سيدة، ثم فتى، ثم عجوز أبيض الشعر، ثم صبي يحمل شقيقته، ثم سيدة في نحو الخمسين، ثم شاب، ثم سيدة. وجلوسا، تبدو زوجة الرجل العجوز وإلى جانبها - على الأرجح - والدتها.

لقد أطلت على جنابكم الشرح. العجوز في وسط الصورة يحتفل بعامه الرابع والتسعين، في القرية، مع العائلة. التاريخ 18 يوليو (تموز) يوم تفجير قيادة الأمن في دمشق وانفجار العاصمة ونزوح 30 ألفا من أهلها إلى لبنان. كم يبدو التقاعد جميلا في عالم السياسة غير الجميل. في آخر يوم من ولايته، اعتمر نيلسون مانديلا قبعته وودع العاصمة إلى القرية. هدوء وحشيش وسكينة.

توقف عن صناعة التاريخ وذهب يتقاعد. فقد صنع من التاريخ أبهى صفحاته؛ خرج من سجن الرجل الأبيض ليقول له: «كان الماضي البغيض لك، فليكن المستقبل الهانئ لك ولنا. تعال نعمل معا، سودا وبيضا، من أجل أرض واحدة وإنسان واحد». خرج من السجن ثم خرج من الحكم، من دون قتيل واحد. لم يدمر منزلا أو شارعا أو مدينة.

حرر جنوب أفريقيا من أجل أن تتحرر، لا من أجل أن يستعبدها هو. أعادها إلى أهلها. لم يمنن عليها بأنه صانع حريتها، بل قال إن هذا كان واجبا أداه قبل السجن وفيه. الباقي، البلد لأهله وأطفاله. لم يسم نفسه القائد الملهم، بل نودي «ماديبا»، اسمه القبلي. لم يشر إلى نفسه على أنه «الرئيس» ولا «السيد الرئيس». هو فقط ماديبا، الذي بعد 5 سنين رئاسة ألقى على القصر الجمهوري تحية الوداع حتى من دون أن يلتفت. خرج ومعه 250 جائزة من حول العالم، بينها «نوبل».

ذهب إلى منزل عادي صغير في كونو، وترك جنوب أفريقيا تبحث عن نفسها وعن مستقبلها بين الأمم. لم يطلق النار على المتظاهرين. لم يرم جموع المعارضين في السجون. لم يشرح للناس أصول المواطنة. لم يشرح لزعماء أفريقيا أصول الحكم ومعاني التاريخ. لوح بيديه وذهب إلى كونو، يحتفل، عاما بعد آخر، بسيرة عظيمة عنوانها الصفح والشراكة.

من قال إن هذه القارة التي تنبت موغابي وموبوتو وبوكاسا وملك الملوك، لا تنبت أيضا ماديبا؟ ومن قال إنها قارة الظلام كما أوحى جوزيف كونراد وهو يبحر في نهر الكونغو؟ هذه أيضا قارة هذا الجد الباسم الذي أطلق القميص المزهر الذي عرف باسمه، ماديبا. وفي عامه الرابع والتسعين، ماديبا في كونو، مثل أي عائلة أفريقية لا تطاردها أرواح الشر ولا تعتمد في أمنها وهنائها على السحرة والعرافين والقبعات الحمراء الغليطة.