قرار الأسد في طهران حتى بالنسبة للدولة «العلوية»!

TT

الذين لا يتوقعون أن يقبل الرئيس السوري بأن يتنحى عن موقعه ويغادر البلاد، وفقا للعرض المغري الذي تقدم به وزراء الخارجية العرب - باستثناء وزير خارجية العراق - في اجتماعهم الأخير في الدوحة، يذهبون إلى أن الأمور تتجه فعلا إلى إنشاء الدولة العلوية، التي كان الفرنسيون قد طرحوها ولم تجد القبول لدى قادة ورموز هذه الطائفة في ذلك الوقت المبكر عندما كانت فرنسا تحتل سوريا ولبنان في أعقاب الحرب العالمية الأولى، وأن بشار الأسد إذ يلوذ بكل هذا العناد ويواصل الإصرار على القتال والمواجهة على هذا النحو فلأن خيار هذه الدولة أصبح جاهزا لديه، وكان والده حافظ الأسد قد أعد لهذا الخيار منذ سنوات بعيدة.

هذه المسألة، التي جرى الحديث عنها في وقت مبكر جدا، لم تعد مجرد تصورات معارضين يسعون لحشد كل المبررات لتشويه صورة بشار الأسد وإدانته، فهناك مستجدات على الأرض تؤكد أن خيار إنشاء الدولة العلوية بات واردا بعدما أصبحت مسألة انهيار نظام بشار مسألة وقت فقط، وبخاصة أن هذا الخيار هو خيار إيران بالأساس التي ترى أن بديل خسارتها لسوريا، التي بقيت تعتبرها منذ بدايات ثمانينات القرن الماضي الحلقة المركزية في سلسلة استراتيجيتها الشرق أوسطية، هو الاحتفاظ برأس جسر لنفوذها على شواطئ البحر الأبيض المتوسط من خلال إنشاء مثل هذه الدولة التي من المفترض، حسب التصور الإيراني، أن تلتقي مع دولة حزب الله (الشيعية)!! التي غدت جاهزة وقائمة بالفعل ولا ينقصها سوى الإعلان عنها بصورة رسمية.

ويبدو أن روسيا، التي بقيت تتخذ كل هذه المواقف غير المفهومة وغير المبررة منذ انفجار الأحداث السورية، غير بعيدة أيضا عن هذا الخيار، فهي بدورها باتت ترى أن خسارتها لسوريا لا يمكن تعويضها إلا بخيار إقامة دولة علوية على شواطئ البحر الأبيض المتوسط الشمالية - الشرقية وعاصمتها اللاذقية وتمتد جنوبا لتشمل طرطوس التي لها فيها القاعدة البحرية الوحيدة في هذه المنطقة الاستراتيجية الهامة والخطيرة.

لا دخان بلا نار، ولذلك عندما تثار هذه المسألة على نطاق واسع، إن في هذه المنطقة وإن خارجها، فإن هذا يعني أن خيار إقامة مثل هذه الدولة الطائفية، التي إن هي قامت بالفعل فإنها ستشكل مع دولة حزب الله في لبنان قاعدة متقدمة لإيران على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، هو خيار جدي سيفضي حتما، إن هو حالفه النجاح وإن هو حظي بتأييد إسرائيل، إلى «سايكس - بيكو» جديدة في هذا الجزء من الشرق الأوسط ستشمل العراق حتما وبعض الدول العربية الأخرى.

ربما يقال في هذا المجال: إن تغيير الخرائط السياسية ليس سهلا، وإن إلغاء دول وإقامة دول أخرى على أنقاضها مسألة إن لم تكن متعذرة في هذه المرحلة من التاريخ فهي في غاية الصعوبة، لكن إذ نتذكر أن يوغسلافيا قد تحولت عندما ضرب منطقة البلقان زلزال بدايات تسعينات القرن الماضي، فإنه علينا ألا نستبعد أن تكون هناك سايكس - بيكو جديدة، وعلينا ألا نستغرب أن يكون هناك خيار إقامة الدولة العلوية التي يجري الحديث عنها والمرفوضة بالتأكيد من قبل قطاعات مؤثرة وواسعة من هذه الطائفة الكريمة المختطفة حاليا من قبل عائلة الأسد ومن تربطهم بها علاقات خؤولة وعمومة وعلاقات منافع ومصالح مشتركة.

سيكون هناك رفض إقليمي ودولي لمثل هذا الخيار الصعب بالتأكيد، وهنا فإنه من غير الممكن أن تقبل تركيا الدولة الرئيسية في المعادلة الشرق أوسطية بأن تقيم إيران في خاصرتها مثل هذا الكيان الطائفي الذي إن هو احتل الشاطئ المتوسطي من شمال «كسب» في الشمال وحتى طرطوس في الجنوب فإنه سيصبح بمثابة شوكة في الخاصرة التركية، وبخاصة أن لعلويي سوريا، كما هو معروف، امتدادا في اتجاه أنطاكيا وأرسوز ولواء الإسكندرون الذي أصبح اسمه التركي «هاتاي».

إنها مسألة ليست سهلة على الإطلاق، لكن مما لا شك فيه هو أن بإمكان ألاعيب الدول أن تفعل كل شيء، وأنه حتى لو أن بشار الأسد، الذي انتهى إليه كل هذا الإرث الثقيل من والده الذي من المؤكد أن كثيرين لا يعرفون أنه أكبر طائفي عرفته سوريا في تاريخها البعيد والقريب وأنه هو الذي حول هذه الدولة العربية إلى مجرد جرم صغير يدور في الفلك الإيراني، أدرك في لحظة من اللحظات خطورة خيار هذه الدولة الطائفية التي يجري الحديث عنها، فإنه يقينا لا يستطيع أن يفعل أي شيء، فهو مكبل أولا بمجموعة تابعة للولي الفقيه في طهران لا تزال تمسك بزمام الأمور في هذه الدولة العربية رغم فقدانها لأربعة من كبار رموزها في انفجار الأربعاء قبل الماضي، وثانيا لأن موقعه في الدولة السورية ليس أفضل كثيرا من موقع محمود أحمدي نجاد في الدولة الإيرانية.

والسؤال الذي قد يطرحه كثيرون على أنفسهم وعلى غيرهم عندما يقرأون ويسمعون مثل هذا الكلام هو: كيف تحولت يا ترى دولة كانت تعتبر قلب العروبة النابض ويحكمها منذ الثامن من مارس (آذار) 1963 حزب يرفع شعار (أمة عربية واحدة.. ذات رسالة خالدة)، هو حزب البعث العربي الاشتراكي، إلى تابع لإيران التي اشتدت نزعتها التوسعية الفارسية بعد انتصار الثورة الخمينية في عام 1979، هذه الثورة التي من المفترض أنها ثورة إسلامية بعيدة عن التزمت القومي الفارسي، وأنها للمسلمين كلهم بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية والطائفية..؟!

وللإجابة على هذا السؤال الصعب فإنه لا بد من الإشارة وبكل موضوعية ومن دون أي تحامل إلى أن حافظ الأسد، كما يعرف رفاقه المخضرمون في الحزب وكما يعرف زملاؤه في الجيش العربي السوري، أشد طائفية من ذلك الضابط الألمعي محمد عمران الذي اغتالته المخابرات السورية في طرابلس اللبنانية في بدايات عقد سبعينات القرن الماضي، وأنه، أي الأسد الأب، استطاع خلال سنوات حكمه، وقبل ذلك عندما كان وزيرا للدفاع وعضو القيادة القومية للحزب، أن يعيد تشكيل القوات المسلحة السورية على أساس طائفي، وأن يحول حتى كبار الضباط السنة مثل مصطفى طلاس وحكمت الشهباني إلى مجرد واجهات ديكورية بلا أي تأثير لا عسكري ولا سياسي، وأنه كان أطلق يد شقيقه جميل الأسد في حملة «التشييع» التي قام بها من خلال «جمعية المرتضى» المدعومة من الإمام الخميني مباشرة ومن سفيره في دمشق محمد حسن أختري ومن هشام بختيار، الفارسي الأصل، الذي كان رئيسا لمكتب الأمن القومي في حزب البعث عندما تم اغتياله بتفجير منطقة الروضة يوم الأربعاء قبل الماضي.

كان حافظ الأسد في ذروة تألقه لدى انتصار ثورة الخميني عام 1979 وكان أيضا في ذروة صراعه مع صدام حسين، والجزء الآخر من حزب البعث الحاكم في العراق، ولهذا وبسبب طائفيته وخلفيته السياسية المستندة إلى هذه الطائفية فإن انحيازه إلى دولة «الولي الفقيه» قد جاء سريعا وتلقائيا، وهكذا ومع الوقت وبحجة ذهاب مصر إلى كامب ديفيد فإنه أخذ سوريا إلى التصاق مذهبي بهذه الدولة، لكنه وللإنصاف بقي يحافظ على علاقات حسنة مع المملكة العربية السعودية، ومع بعض دول الخليج العربي، وبقي يلعب لعبة التوازن باقتدار في علاقاته مع العرب بصورة عامة ومع الإيرانيين، الأمر الذي فشل فيه ولده بشار الذي لم يتردد ومنذ اللحظة الأولى لوصوله إلى الحكم في تحويل الجمهورية العربية السورية إلى مجرد رقم، وإن أساسي في المعادلة الإيرانية، وإلى قطع علاقاته بكل الدول العربية الرئيسية مقابل الارتماء نهائيا في أحضان إيران، والقبول بتبعيته لمرشد الثورة كتبعية محمود أحمدي نجاد وربما أكثر، ولذلك ولكل هذا فإن هذه الدولة الطائفية التي يجري الحديث عنها الآن ستكون خياره الحتمي، وذلك لأن هذا الخيار هو خيار علي خامنئي وخيار حوزة «قم» العلمية!