خيارات ما بعد موت خطة أنان في سوريا

TT

فشل خطة أنان لتسوية الأزمة السورية لا يعد مفاجأة لكل من يعلم محتويات هذه الخطة والمبادئ التي قامت عليها؛ فالخطة لم تقتل عمدا من أي طرف من الأطراف السورية المتنازعة أو الأطراف الخارجية المتنافسة، بل ماتت موتا طبيعيا لأنها أصلا ولدت مشوهة وغير قابلة للحياة.

من غرائب هذه الخطة أنها تعاملت مع ثورة الشعب السوري بأسلوب يوحي بأن الثورة مجرد حالة تمرد واحتجاج بسيط، تحمل مطالب يمكن التعامل معها بيسر، ولم تتعامل مع الأزمة على أنها ثورة شعب تسعى لتغيير النظام القائم، والأدهى أن هذه الخطة تقوم على الاعتراف الكامل بسلطة النظام السوري، واعتباره الشريك الأساسي في تسوية الأزمة. وعهدت للنظام بتنفيذ بنود الخطة، ومنها قيام النظام بإصلاح الوضع السياسي في سوريا، أي الطلب من النظام إصلاح نفسه، وتبني الأسس الديمقراطية في الحكم، وغيرها من المطالب التي لا يرغب النظام في تطبيقها، ولن يتمكن من تطبيقها وحتى البقاء في السلطة.

جاء قرار مجلس الأمن الدولي الأخير رقم 2059 يوم 20 يوليو (تموز) بالتمديد لفريق المراقبين لمدة أخيرة ونهائية أمدها شهر واحد غير قابلة للتغيير، ليعزز القناعة بموت خطة أنان، وربما معها موت ونهاية جميع جهود المنظمة الدولية للتعامل مع الأزمة السورية. وبناء على القرار الأممي الأخير فإن يوم 20 من أغسطس (آب) المقبل سيكون النهاية الرسمية لجهود المنظمة الدولية في التعامل مع الأزمة السورية.

جميع الأطراف توقن أنه لن تحدث معجزة خلال هذه الأيام القليلة؛ لذا فإن هناك حالة من الاستسلام للحقيقة الحتمية التي تؤكد أن تاريخ انتهاء مهمة المراقبين الدوليين سيمثل موعد خروج الملف السوري من سيطرة المنظمة الدولية وفتح الأبواب واسعة للخيارات الأخرى. لذا فإن يوم 20 أغسطس المقبل سيؤرخ لانقضاء أربعة أشهر كاملة على محاولات تنفيذ خطة أنان على أرض الواقع، وخلال هذه الفترة سقط ما يقارب الألفين من الضحايا السوريين الإضافيين، ليرتفع إجمالي عدد الضحايا إلى عدة آلاف، بما يفوق عدد الضحايا الذين سقطوا في ثورات الربيع العربي.

انتهاء الخيار الأممي، وعجز وشلل مجلس الأمن الدولي عن التدخل الفعال في تسوية الأزمة السورية، ستعيد ثقل الحسم إلى الاختيارات الثلاثة الأخرى المتبقية، وهي: الاختيار الدولي خارج آلية مجلس الأمن الدولي، والاختيار الإقليمي، ثم الاختيار السوري الداخلي.

ففي ظل الشلل وحالة العجز التي سيطرت على آلية مجلس الأمن نتيجة للاستخدام المتكرر للفيتو الروسي – الصيني المزدوج، فإن الخيار الدولي خارج إطار مجلس الأمن أمسى يتمتع بدرجة من الشرعية والقبول لم يكن يتمتع بها سابقا. وقد يأتي هذا التدخل عبر منظمات إقليمية - دولية، مثل منظمة حلف شمال الأطلسي التي لعبت سابقا دورا محوريا في إنهاء الأزمة الليبية والأزمة في البلقان، ولها دور أساسي في الصراع الدائر في أفغانستان. أو قد يأتي التدخل بشكل تحالف مجموعة من الدول الراغبة خارج إطار أي منظمة قائمة من أجل تطوير آلية للتدخل العسكري، وهذا ما حدث عام 1991 بقرار أربع دول معنية، هي الولايات المتحدة، بريطانيا، فرنسا، وتركيا، للتدخل العسكري في «تحالف الراغبين» لحماية الشعب الكردي في شمال العراق من بطش النظام العراقي آنذاك، وضمن هذا الخيار، وفي حالة تجاوز عنصر التبرير أو الشرعية، يكمن سؤال من شقين أساسين، الأول: هل هناك رغبة دولية قائمة لتكرار هذه التجربة من أجل حماية الشعب السوري؟ والشق الثاني: هل هناك قدرة على تنفيذ خطة عسكرية فعالة قليلة الخسائر البشرية، والمادية، والسياسية، ومضمونة النتائج، وقادرة على الحسم السريع للأمر؟ الجواب المنطقي لهذا التساؤل، وبناء على الاعتبارات القائمة في الوقت الراهن هو بالنفي؛ فلا توجد دلائل على وجود رغبات حقيقية، أو قدرات عسكرية لتنفيذ هذا الهدف، ولا توجد حتى اليوم أدلة على قيام حلف شمال الأطلسي أو نواة «لتحالف الراغبين» بمهمة التدخل نيابة عن المجتمع الدولي.

حظوظ التدخل الإقليمي قد تكون بالتساوي والتوازي مخيبة للآمال، مثلها مثل احتمالات التدخل الدولي، فلا توجد أدلة كافية على قيام أو بلورة تحالف إقليمي يأخذ على عاتقه مهمة توفير الدعم الفعلي للثورة السورية> هذا على الرغم من التأييد الكاسح والتعاطف الكبير مع ثورة الشعب السوري على المستوى الإقليمي؛ فإيران الداعمة والمؤيدة للنظام السوري تقف وحيدة وفي عزلة تامة أمام التأييد والتعاطف الرسمي والشعبي الذي يعم العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط عموما، ولكن هذا النوع من التعاطف لم يترجم حتى اليوم إلى آلية حقيقية تقوم بمهمة توفير الدعم الفعلي للثورة السورية.

يبقى الخيار الأخير، وهو خيار انتصار الثورة من داخل سوريا دون الاعتماد على وسائل الدعم الخارجي، هذا الخيار هو الأكثر واقعية، على الرغم من كونه الخيار الأكثر تكلفة بالمقارنة مع جميع الخيارات الأخرى؛ فإسقاط النظام نتيجة المقاومة الداخلية قد يأتي بعدة احتمالات وصيغ مختلفة ومتنوعة، قد تتمثل بشكل جماعي أو منفرد، فقد أفرزت الأيام القليلة الماضية حقائق مهمة، وهذه الحقائق فتحت الأبواب واسعة على احتمال سقوط النظام نتيجة اشتداد العمليات العسكرية ضد قوات النظام التي تتصف اليوم بالشمولية والانتشار الجغرافي والتخطيط والإعداد المتطور، بجانب استخدام أسلحة جديدة وأساليب قتالية عالية القدرة، مما أنهك قوات النظام ووضعها في موقف حرج عاجزة عن التعامل مع هذه الضغوط الميدانية المتصاعدة، وخلال الأيام القليلة الماضية برز سلاح الاغتيال كآلية جديدة وفعالة لزعزعة النظام وإضعاف معنويات قيادته؛ فالعملية الأمنية الناجحة التي تم من خلالها تصفية أربعة من كبار القيادات الأمنية للنظام، تعد طفرة نوعية في حرب الثوار ضد النظام. وهذا النوع من العمليات سيؤدي إلى تفكك النظام واضمحلال الولاءات، وسيقود إلى الانهيار الداخلي والتدريجي للنظام. وهناك احتمال الانقلابات العسكرية ضمن الدائرة الداخلية للنظام، الذي يجب عدم استبعاده من الحسابات المنطقية، فهناك شريحة محددة ضمن النظام ستعمل على إنقاذ نفسها قبل الغرق الكلي لسفينة نظام الأسد، وربما ستحاول استباق الانهيار النهائي والحتمي بأخذ زمام المبادرة، وتغير قيادات النظام كحل وسط لتهدئة الأزمة. وعلى الرغم من أن هذا الخيار سيقوم على افتراض تولي عناصر من النظام زمام السلطة، وعلى إحداث تغيرات جذرية ولكنها غير كاملة على تركيبة السلطة داخل سوريا، فإن رد فعل الثوار ورد الفعل الشعبي لا يمكن تخمينه بشكل دقيق، بجانب صعوبة التنبؤ بردود الفعل الإقليمية والدولية تجاه هذا النوع من التطورات.

إذن السؤال القائم اليوم الذي يستعصي على الإجابة الدقيقة هو: كيف ستكون نهاية النظام السوري؟ وكيف ستكون طبيعة ومسيرة الثورة السورية؟ فالاحتمالات جميعها واردة دون القدرة على تحديد: متى وكيف، ولكن يبقى أهم هذه الاستنتاجات هو الاستنتاج القائل بأن سقوط النظام السوري أمسى قضية حتمية.

* رئيس مركز الخليج للأبحاث في دبي