الأنظمة الأمنية العربية والاستناد إلى الأوهام

TT

ما كان بشار الأسد أول الحكام الأمنيين العرب ولن يكون آخرهم. لكنه الوحيد من بين حلقات المنظومة التي استمرت لأكثر من خمسين عاما، الذي تجرأ على وراثة السلطة، والوحيد الذي تجرأ على قتل هذا العدد الكبير من أبناء شعبه، بل الأحرى القول إنه في هذه المسألة الأخيرة بالذات (ارتكاب المذابح والإبادات) إنما يشترك مع والده حافظ الأسد الذي قتل عشرات الألوف في السنوات الثلاث (1979 - 1982)، واعتقل عشرات الألوف لعدة عقود! وقد أحصى بعض الصحافيين ما ارتكبه النظامان البعثيان في العراق وسوريا منذ ظهورهما وإلى انقضائهما، فتبين أن حافظ الأسد وابنه: قتلا ما لا يقل عن 130 ألفا من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، وربما من بعض الشعوب العربية الأخرى. كما أن الرجل وابنه اعتقلا وعذبا من السوريين والفلسطينيين واللبنانيين والعراقيين والعرب الآخرين ما لا يقل عن مائتي ألف.

إننا نشهد هذه الأيام، أو منذ أيام قيام الثورات العربية مآلات هذه الظاهرة (= ظاهرة الحكم العسكري والأمني في البلاد العربية) ونهايات هذه الحقبة الطويلة الطويلة. بيد أنه يكون من المفيد فهم أسباب هذا البقاء الطويل. ويكون من المفيد المراجعة والنقد لأن لا ننسى أو نتردد أمام ضرورات التغير بسبب أهوال التكاليف والأعباء، والقدرة الفائقة لهذه الأنظمة المتهالكة على سفك الدم وتشريد الناس واضطهادهم.

والواقع أن الأنظمة العسكرية الأمنية هذه مرت بثلاث حقب أو مراحل: حقبة الرسالة والاستتباب في ما بين الخمسينات والسبعينات من القرن الماضي - وحقبة الانكسار والارتباك في نهايات الحرب الباردة - وحقبة الخضوع للهيمنة والتنسيق معها والاطمئنان إليها.

في الحقبة الأولى: حقبة الرسالة، بدا هؤلاء الضباط الشباب أصحاب رسالة أو مهمة. وتتعلق تلك المهمة أو المهمات بالاستقلال الوطني وبالوعي القومي العربي وبالنضال من أجل فلسطين، وبإعادة توزيع الثروة والتنمية. وبالنظر إلى هذه الأهداف فقد اجتلبوا أحلام الشباب وآمالهم، فضلا عن أنهم كانوا الفئة الاجتماعية الوحيدة المنظمة بحكم الترابط والانضباط المعروف في المؤسسة العسكرية. وكانت الحرب الباردة قد بدأت، وجاء وقت تبديل الحرس في المعسكر الغربي، بمعنى حلول الولايات المتحدة محل بريطانيا وفرنسا في شرق المتوسط وجنوبه. وما أثار هؤلاء الضباط قلق الولايات المتحدة (رغم المعلومات عن إسلامية بعضهم، وقومية ويسارية بعضهم الآخر)، لأن تلك الجيوش الناشئة جميعا كانت من صناعة غربية بحكم خضوع تلك البلدان للاستعمار الغربي لأزمنة متطاولة.

وقد قال السفير الأميركي في القاهرة إن هؤلاء العسكريين لا يكرهون المستعمرين كثيرا فهم يدينون لهم بكل شيء من التربية وإلى التدريب والسلاح. ثم إن المكروهين هم البريطانيون والفرنسيون، أما نحن الأميركيين فجُدد، وأعتقد أننا سنتمكن من التعاون معهم من دون حساسيات! وفي أواسط الستينات كان الأمر قد استتب للأنظمة الجديدة بغض النظر عن مدى تحقق الأهداف الكبرى. ومن جهة ثانية فإن هؤلاء الضباط دخلوا في تحالفات وثيقة مع الاتحاد السوفياتي - القطب الآخر في الحرب الباردة - بدلا من الولايات المتحدة؛ وذلك لكثرة شروطها في ما يتعلق بالديمقراطية والشرعية، ولشدة ارتهانها لإسرائيل وأمنها.

وما تعرضت هذه الأنظمة (رغم عدم استقرارها) للتساؤل إلا بعد هزيمة عام 1967. فصحيح أن الذين انهزموا هم الجيشان المصري والسوري بالدرجة الأولى. لكن سمعة العسكريين نالتها إهانة بالغة، وبدت عاجزة أمام إسرائيل التي احتلت أراضي في سائر البلدان العربية المحيطة بها. وهكذا انكسرت شوكتها وادعاءاتها، لكنها ظلت متمتعة بحماية الاتحاد السوفياتي، فما كان سقوطها واردا رغم هول الهزيمة. ولجأت من جهة ثانية إلى أساليب مختلفة لتجديد الشرعية والمصداقية، مثل بدء الانحياز للولايات المتحدة، أو دعم بعض فصائل المقاومة الفلسطينية. وفي الوقت نفسه تدعيم أجهزتها الأمنية بعد أن صار للداخل حساب يحسب. والاستعداد لتغير العدو بالداخل. فحتى عقد السبعينات كانت الدعاية لا تزال قائمة ضد الرجعية والاستعمار. إنما في السبعينات ظهر العدو الجديد: الإسلام السياسي العنيف وغير العنيف. ولذلك فإن الأنظمة العربية عانت منذ مطلع السبعينات من الإذلال أمام إسرائيل، ومن رجحان الكفة لصالح الولايات المتحدة في الصراع الدولي، ومن صعود الحركات الإسلامية باعتبارها حركات المعارضة الرئيسية للأنظمة القائمة. وقد كانت هذه الحقبة شديدة الوطأة على الأنظمة العسكرية ببلاد الشام والعراق ومصر: فأميركا تستعجل الانضمام والولاء، والاتحاد السوفياتي يشيخ ويشيخ، والإسلاميون يزدادون قوة وتمردا. لكن كيسنجر قال وقتها: عدو تعرفه خير من صديق لا تعرفه! فقرر الأميركان أخيرا إذن الإبقاء على القوى والجهات السائدة مهما كلف الأمر. وظهرت لدى الأطراف (الجيوش، والقوى الأجنبية، والجهات الثقافية والفكرية) مصالح مشتركة تمثلت في مكافحة الإسلاميين، ومنعهم من الظهور والسواد. وما كان الإسلاميون يشكلون وقتها بديلا حقيقيا، وكانت المعرفة بهم ضئيلة، ولذلك فإن ضعف الأنظمة العربية كان سبب بقائها، للافتقار إلى البديل المقبول، والاستعداد لشراء ود الأميركيين بأي سبيل؛ وبخاصة بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

بيد أن أزهى حقب العسكريين العرب، كانت حقبة السنوات العشرين الأخيرة. فقد خضعوا جميعا للهيمنة الأميركية التي سرتها تبعيتهم أو سرها «وفاؤهم بالترتيبات»، كما كانوا يقولون عن الرئيس الراحل حافظ الأسد. لكنهم فقدوا أي ادعاء حتى في ما يتعلق بإسرائيل، وسلموا كل النضالات للأحزاب الدينية. وشهدت فيهم الولايات المتحدة أعوانا مخلصين في تعقب «القاعدة». وبدا للحكام العسكريين أن الولايات المتحدة لا يمكن أن تطمئن للإسلاميين العنيفين وغير العنيفين. وما أظهر الإسلاميون - رغم حسن تنظيمهم وكثرة أعدادهم – استعدادا جيدا لخلافة العسكريين والأمنيين. ولذلك فقد تجرأ الجميع - بسبب الاطمئنان – على التفكير في التوريث. وما استشاروا في ذلك في مصر وسوريا واليمن وليبيا غير الأميركيين والبريطانيين. ويقال إن الراحل صدام حسين كان يريد أيضا توريث أحد ولديه(!). بيد أن هذه الآمال كلها، والمعقودة على خنوع الناس وخضوعهم، واستحسان الأميركيين وتهليلهم، ما وصلت إلى نهاياتها المرجوة إلا مع الرئيس حافظ الأسد، الذي ما فكر عند وفاة ابنه الأكبر، في غير توريث الثاني الذي كان وقتها يدرس في إنجلترا!

قال العالم السياسي المصري نزيه الأيوبي في كتابه: «تضخيم الدولة العربية»، الصادر عام 1994: إن الأنظمة السياسية في الجمهوريات العربية وصلت إلى طرق مسدود، وفقدت خصائص الدولة، وصارت عصابات للفساد والإفساد. لكن من جهة أخرى - وبحسب الأيوبي - فإن سقوط هذه الأنظمة ما كان في متناول اليد. لأن الأميركيين يحمونها، ولأنهم لا يرون لها بديلا، باستثناء الإسلاميين الذين يكرهونهم. ولذا ستحدث وحسب تمردات إسلامية مسلحة تخمد بشكل عنيف وسط استحسان الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية معا!

لقد انتهت تلك الأنظمة لثلاثة أسباب؛ الأول: خروج أبناء الطبقات الوسطى المتعلمين عن الخط المرسوم، ثم تمرد شبان الريف المهمشين والفقراء - والسبب الثاني: تغير سياسات الولايات المتحدة في منطقتنا لجهة توقف الضغوط والغزوات، ولجهة تقبل الإسلاميين - والسبب الثالث: اعتماد الأنظمة الكامل على الأميركيين وعلى الأجهزة الأمنية. والأميركيون قلبوا لهم ظهر المجن، والأجهزة تقتل لكنها ما عادت تخيف.

وهؤلاء الحكام من البشير إلى بشار، شديدو الغرور. ولذا لا يصدقون أن زمنهم قد انتهى، وأن القتل لا يمنع الثورة، وأن الأميركيين والروس والصينيين يملكون قواسم مشتركة ومصالح كبرى ليس العسكريون العرب الخالدون من بينها. وهكذا فإن الأمر ليس غباء بسيطا، بل هي أوهام مركبة مضت عقود على قيامها واستتبابها، ومن يعش طويلا يعتقد أنه خالد. ولا حول ولا قوة إلا بالله.