«الورق» الرمضاني!

TT

أصحاب المهنة كثيرا ما تسمع منهم أن المهم هو «الورق» في هذه المهنة، وما أشير إليه هنا هم العاملون في القطاع الفني من الأعمال المسموعة / المرئية، الذين يقدمون لنا الفن السابع (السينما) أو المسلسلات التلفزيونية، وبناء عليه فإن «الورق» أي النص المكتوب للأعمال المقدمة هذا العام من خلال شاشات التلفزيون ضعيف قلل من رونق هذه الأعمال.

لا أعرف ثقافة حتى الساعة يلتصق أبناؤها بأجهزة التلفزيون كمثل ما يلتصق أبناء العرب به في شهر رمضان الكريم. فبمجرد الانتهاء من الفطور ويوميا تجتمع الأسر حول هذا الجهاز، والميسورون منهم يتفرقون على أكثر من جهاز في نفس المنزل، لمتابعة ما شدهم من مسلسلات رمضانية. وأصبحت هذه العادة لصيقة إلى درجة أن نصائح رمضان التي تنتشر في هذا الشهر من الحرص على العبادة واختيار أنواع الأكل وتنظيم الوقت، لا تخلو من تنبيه على عدم الإدمان على المسلسلات، حتى أصبح رمضان لا يكون رمضان إلا بعدد من المسلسلات التي تشيع اليوم بين أكثر من مائة وعشرين محطة فضائية عربية تتنافس على المشاهد.

هذا العام ليس باستثناء، ولكن الاستثناء هو أن «ورق» - أي نصوص - مسلسلات هذا العام خرجت منها الأعمال السورية بسبب ما يحدث في سوريا من اضطراب أخذ وقتا طويلا فعطل تلك الصناعة التي كانت تشكل منافسة فاعتلى فيها المُنتج المصري المركز الأول دون منازع، بالإضافة إلى بعض الإنتاج المشترك.

إدمان العرب على مشاهدة المسلسلات وغيرها من البرامج التلفزيونية في رمضان يحتاج إلى تفسير اجتماعي، فالظاهرة منتشرة، وهي صناعة أصبحت تكلف مليارات الدولارات في الإنتاج والتوزيع، يتكالب أصحاب المحطات التلفزيونية أو المسؤولون عنها من أجل استقطاب أهم المسلسلات في نظرهم، وإن أمكن جعلها حصرا على محطاتهم حرصا على احتكار الجمهور، وطبعا سيل الإعلانات التي تدر الدخل الوفير، حتى أصبحت تلك الإعلانات معوقا حقيقيا للمتابع، بما تأخذه من وقت، فقد اشتُكي من طول وقتها، أي الإعلانات، إلى درجة تكاد تنغص متعة المتابعة.

هل هذه العادة هي من أجل قتل الوقت فقط، أم تنفيس عن رغبات يراد تحقيقها وتحقق افتراضيا على الشاشة، أم هناك تفسيرات أخرى لهذه الظاهرة المتعاظمة، إلى درجة أنها أصبحت مطلوبة لذاتها قبل محتواها؟! تقع هذه الأعمال على نسيج اجتماعي غالبه أمي يستمد معلومته مما يشاهد، ويشكل رأيه كما تفرضه تلك الأعمال.

مسلسل «عمر» الخليفة الثاني، هو الأكثر مشاهدة هذا العام، وهو الرجل الذي ظل خليفة على المسلمين لأكثر من عشر سنوات، تم خلالها تأصيل الكثير من الممارسات الإسلامية من خلال تفسيرات وجد أنها الأكثر ملاءمة. كما أن فترة حكم «عمر» شهدت انتصار المسلمين في الشام على الرومان وفي العراق على الفرس، «الفاروق» - وهي كنيته - لما عرف عنه من صرامة في تحقيق العدل، حتى قال بعض المؤرخين إنه أتعب من جاء بعده، بل أشار إليه أديب العرب، طه حسين، بسبب إنجازاته في الحكم والإدارة بقوله «أتاح للمسلمين أثناء خلافته لونا من الحياة ما زالت الأمم المتحضرة الآن في الغرب مقصرة عن بلوغه» وهي شهادة بالغة الدقة. إذن العدل والشجاعة في الحق من جهة، وبناء الدولة والتخطيط الاستراتيجي للانتصارات من جهة أخرى، هي ما يفتقده العربي في مرحلة «ربيع العرب»، تلك الصفات التي يتشوق إليها المشاهد ويرغب في تحقيق مثلها في حياته اليوم (العدل في المجتمع والانتصار على المناوئين الخارجيين) جعلت المشاهد يتابع «عمر» أكثر من أي مسلسل تلفزيوني آخر.

إلا أن «الورق» لمسلسل عمر الدرامي بدا ضعيفا وتقليديا وبطيئا، لم يخرج حتى الآن - خلال عشر حلقات - عن الشكل التقليدي الذي رسمته السينما العربية في أفلام سابقة عن بداية الدعوة المحمدية، لو استند الورق على ما كتبه طه حسين في كتابه «الشيخان» الذي أخذت منه المقطع السابق، لربما قدم لنا شيئا مختلفا عميقا وقريبا من أعمال عمر. تقديري أن «ورق» عمر لم يستطع أن يظهر توازن القوى الدقيق في مكة بين أهل الدعوة ومناهضيها، فأخرج العمل - في ذهن المشاهد - على أنه قريب إلى المعجزة. وبعيدا عن النص، أسوق لكم ملاحظة أو إحدى الهفوات الإخراجية في العمل وهي هذا النوع من الملابس الثقيلة التي ارتداها الممثلون، وهي قد تصلح لبيئات أكثر برودة من بيئة مكة التي ظهر فيها البعض مخففا في الملابس وآخرون مثقلين بها، كما جاء الحوار باهتا غير مقنع، ليس هذا هو عمر الذي قال فيه ابن مسعود «كان إسلامه فتحا وهجرته نصرا وإمارته رحمة».. اسم كبير وتفعيل درامي أقل من المتوسط.

المسلسلات المصرية انصبت في معظمها على أعمال لها علاقة بـ«أمن الدولة» ذلك الجهاز المخيف في العصر المباركي. كما ناقش بعضها العلاقة الإسلامية - المسيحية في عصر مبارك وما شابها من قلق. الأعمال المصرية توقفت في عام أسبق ثم اندفعت هذا العام في أكثر من عمل درامي. ومن الملاحظ أن مسلسلات «أمن الدولة» وهي أكثر من مسلسل واحد، تقول للمشاهد بشكل واضح أو مبطن إن البعض قد توقع ثورة 25 يناير! كما أن البعض الآخر كان شجاعا لا يهاب هذا المارد الذي كان يلفق التهم ويجبر الأبرياء على الاعتراف بما لم يرتكبوه، خاصة من التيارات السياسية الدينية. أما أكبر الأعمال التي أذيع لها الكثير من الدعاية والإعلانات فهي «فرقة ناجي عطا الله» الذي أخذ من الإعلان المسبق أكثر بكثير من حقيقة العمل الذي جاء بخيال جامح. فكيف لدبلوماسي عربي في سبعيناته أو أكثر وفي إسرائيل أن يقوم بما قام به عادل إمام من «قفز وضرب وإطلاق نار وأموال ميسر»! واضح أن «ورق» فرقة ناجي كما ورق مسلسل آخر هو مسلسل «تحية كاريوكا» الذي بدا أيضا ضعيفا للغاية من جانب النص واختيار الأبطال، فهل يعقل أن تمثل دور الفنانة الكبيرة والرشيقة تحية كاريوكا صاحبة «شباب امرأة»، غادة عبد الرازق المتجهة إلى الخمسين والممتلئة، كما فعل عادل أمام، السبيعني في دور الفتى المغامر، لقد ارتكن العملان على السمعة السابقة للأبطال لا المواءمة الفنية المقنعة.

أما مسلسلات الخليج فهي كما العادة «صراخ في صراخ ولطم وكآبة» وكأن الأسرة الخليجية ليس لها عمل غير هذا! مرة أخرى فإن الأعمال الخليجية أكبر نقاط ضعفها «الورق» الذي يبدو أن كثيرا منه قد وضع في جلسة شارك فيها الحضور كلّ برأي ثم تم «لصق» كل هذه الآراء مع بعضها البعض، وتعالوا نعمل مسلسل، فتكون «ورق» المسلسل! وينطبق على كثير من الممثلين ما ينطبق على غادة عبد الرازق وعادل إمام، أي الاعتماد على الأسماء قبل النصوص، للوجوه الجديدة مكان قليل فالاستحواذ حتى في الفن معطل للتطور ولكن هو السائد.

آخر الكلام:

الكذب نوعان واحد مصدره الكره وإلصاق التهم بالآخرين لتقليل شأنهم، إلا أن الأخطر منه الكذب النابع من الإكبار والتقديس، فيلصق في الشخص ما ليس فيه، فيصبح ذلك مصدرا من مصادر الكذب.