خطورة تحويل غزة إلى غزوة

TT

انتهينا وانتهى معنا العالم إلى أن الحل الوحيد لقضية الشعب الفلسطيني هو أن تكون له دولته الحرة المستقلة. دولة ديمقراطية تعيش في سلام مع جيرانها. هذا هو الحل الذي يسمى اختصارا «حل الدولتين». لكن الإسرائيليين والفلسطينيين لا يعيشون في منطقة منعزلة على كوكب بعيد، بل هما يعيشان في منطقة تسودها الصراعات والأفكار المناهضة للسلام بوجه عام. وإذا كان حل الدولتين مدعوما بمساندة كل حكومات العالم تقريبا أو معظمها، فهو يستند في المنطقة إلى قوة وشرعية السلام المصري الإسرائيلي. لهذا كانت كل محاولات التقريب بين الطرفين لا بد أن تمر بمحطة مصر حتى لو لم تحقق النجاح الذي ينشده الطرفان. أي أن مجرد وجود السلام المصري الإسرائيلي لم يكن وصفة للنجاح، لسبب بسيط هو عدم إيمان أطراف قوية بالسلام وبحتمية وجود الدولة الفلسطينية داخل معسكرنا كعرب وداخل المعسكر الإسرائيلي.

من المؤكد أن سوريا تمثل طرفا شديد الأهمية في معادلة الحرب والسلام، وأنه بالفعل في غيابها لن يحدث السلام كما لن تحدث الحرب، وهو ما اتضح لنا في ما بعد، ولكن عن أي سوريا نتكلم؟ إن الحرب الوحيدة التي خاضتها الحكومة السورية بامتياز هي حربها ضد الشعب السوري. لم يحدث في التاريخ أن نظاما على الأرض شن حربا ضد شعبه بهذه القسوة والوحشية. ولغياب سوابق تاريخية لهذا النوع من الجنون كان من الصعب على العالم كله حماية الشعب السوري، ووقفنا جميعا نمصمص شفاهنا في عجز وخجل ونحن نرى شعبا يتحول إلى لاجئين أو جثث أو جرحى نعجز عن الوصول إليهم لعلاجهم.

هكذا انتهى الأمر بسوريا الممانعة المحاربة ضد إسرائيل والإمبريالية العالمية.. لا تحرير للأرض المحتلة حربا أو سلما، ثم تحويل عدة مئات من الألوف من الشعب السوري إلى لاجئين هاربين من الموت بعد تحويل مدنهم وقراهم إلى أنقاض. هكذا يتضح لنا بجلاء أن السبيل الوحيد للتعامل مع القضية الفلسطينية هو حل الدولتين، مما يتطلب حكومة فلسطينية موحدة تسعى للتفاوض من أجل سلامها وسلام المنطقة. وأي مقاربة أخرى ليست أكثر من أوهام في أفضل الأحوال، أو دجل سياسي في أسوئها.

كان لا بد من هذه المقدمة الطويلة عما يحدث في سوريا قبل أن ننتقل إلى ما يحدث في مصر هذه الأيام.. فمنذ يومين وعندما كان السيد إسماعيل هنية يعبر حدود مصر الدولية عند رفح في طريقه للقاء الرئيس المصري محمد مرسي، صرح بأن سيناء ستظل أرضا مصرية. يا إلهي.. وهل هناك من يفكر في غير ذلك؟ هل هناك احتمال أن نكتشف فجأة أن سيناء أرض بولندية؟ هل استشهد على رمالها عشرات ألوف المصريين دفاعا عن بولندا؟ طبعا سيناء أرض مصرية، كما أن أسيوط ودمياط بلدتان مصريتان، وكاليفورنيا ولاية أميركية. لا أعرف أحدا منشغلا بهذه الحكاية، وربما يكون السيد هنية هو أول من انشغل بها، وهو ما أنساه أن يقول لنا بوضح وماذا عن غزة؟ أتمنى في تصريحه القادم أن يقول لنا إن غزة ستظل إلى الأبد مدينة فلسطينية.

كل الكلمات الجميلة التي تنضح بالمعاني المطمئنة عاجزة عن إخفاء ما تفكر فيه قيادة حماس هذه الأيام، وهو سلخ مدينة غزة عن جسم الأرض الفلسطينية لكي تضيف أنواعا جديدة من المشاكل والمتاعب للفلسطينيين والمصريين وللعرب عموما، وتسهم بالتأكيد في أن تأخذ القضية الفلسطينية مسارا آخر من المستحيل أن ينتهي بإقامة الدولة الفلسطينية. والحديث عن أن مصر كانت تحكم غزة منذ عام 1948 إلى عام 1967 المقصود منه فقط إقناع المصريين بأنه من الطبيعي أن تكون غزة مدينة مصرية، ويترتب على ذلك بالطبع إعفاء إسرائيل من أي التزام لها طبقا للقانون الدولي تجاه غزة بوصفها أرضا محتلة. بعد النكبة لم يحدث أن ضمت مصر غزة إلى أراضيها، لأن ذلك ليس من حقها. أقصى ما تستطيع أن تفعله وفعلته بالفعل، هو أن تقوم بتعيين حاكم عسكري لغزة يسيّر شؤونها إلى أن يصل العالم إلى حل للقضية الفلسطينية. وهو ما جعل من السهل بعد ذلك بعشرات السنين أن يتفاوض الفلسطينيون مع الإسرائيليين في أوسلو ليصلوا إلى اتفاق يقضي بأن تنسحب إسرائيل من غزة وأريحا أولا. لم يتفق على ذلك ولم يعلن ذلك مسؤول مصري، بل أعلنه ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير المتحدث الشرعي والوحيد باسم الشعب الفلسطيني. على السادة في حكومة هنية أن يتذكروا أن الشعب الفلسطيني اختارهم من خلال صندوق الاقتراع ليحكموا الشعب الفلسطيني كله في الضفة وغزة وأي أرض أخرى يتم تحريرها من خلال التفاوض. والحكم ليس صك ملكية يعطي للحكومات حق ممارسة الملكية على الأرض وما عليها، بل هو تفويض بالإدارة، إدارة شؤون الناس بما يجلب لهم الخير ويحقق لهم الحرية.

هذا هو ما يجب أن تعرفه جماعة حماس في غزة، وما يجب أن تعرفه أيضا الجماعة الأم في مصر. ومرة أخرى وليست أخيرة، أي تناول للقضية الفلسطينية خارج إطار الدولة المستقلة ليس أكثر من أوهام أو هو دجل سياسي عانى الفلسطينيون وعانينا معهم منه طويلا، وأي نقاش بين الطرفين المصري والفلسطيني لا يبدأ بإيضاح الهدف النهائي له، يضمن المزيد من الخطوات للشعب الفلسطيني على طريق الفشل والتعاسة.

لا ولن يوجد أحد على وجه الأرض من حقه إزاحة الحدود المصرية ملليمترا واحدا عن مكانها. ولا أحد على وجه الأرض من حقه أن يوضح لنا الأرض التي ستظل مصرية لأننا نعرفها جيدا. كما أنه لا أحد على الأرض من حقه أن يمنع أجهزة الأمن المصرية على حدودنا من ممارسة عملها طبقا لتقديراتها، لأنها في نهاية الأمر تمارس عملها ليس دفاعا عن نظام أو حزب أو جماعة بل هي تدافع عن هذا البلد. هناك انفلات أمني في مصر، نعم.. ومع ذلك الأجهزة الأمنية تضبط كل يوم أنواعا من الأسلحة لم نسمع عنها من قبل في طريقها إلى أرض سيناء المصرية كما عرفها السيد هنية. هناك انفلات أمني في سيناء، نعم.. والسؤال هو: من أين جاءت هذه المنظمات المتطرفة وما مدى مسؤولية حماس عن وجودها؟ وإذا كان الأمن المصري فشل في منعهم من دخول سيناء وممارسة أعمالهم الإجرامية فيها، أليس من حقه على الأقل تقليل أعدادهم إلى أن تأتي اللحظة التي يتمكن فيها من منعهم من الدخول نهائيا؟

على الجماعة الأم في مصر وفرعها في غزة أن يعترفا باتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وليس فقط أن يوافقا عليها. الموافقة على السلام عجزا عن الحرب، أو خوفا من تبعاتها، لا يصنع الاستقرار. وعقد اتفاقيات التهدئة مع إسرائيل بغير الاعتراف بوجودها يمشي بجماعة حماس في طريق لا نهاية له.. وليس من مصلحة الحكومة المصرية أن ترافق حماس في هذا الطريق. نحن في حاجة إلى كل دقيقة من وقتنا على الأقل لكي يتمكن المصريون من شرب كوب من الماء النظيف.