السوريون إذ يعيدون استكشاف وإنتاج وطنهم

TT

حين بدأت حركة الاحتجاج الجماهيرية ضد نظام الأسد في سوريا، منتصف مارس (آذار) 2011، كانت حركة إصلاحية لاعنفية، وكانت سترضى ببقاء الأسد، مع إخلاء سبيل الوطن - الدولة والمجتمع من أسر القبضة الأمنية عبر السير نحو الدولة الوطنية.. اللاقومية.. اللاحزبية.. اللاطائفية. رويدا، ومع اشتداد التعاطي الدموي للنظام السوري مع حركة الاحتجاج السلمية، ارتفع منسوب الثورية في هذه الحركة، بارتفاع سقف المطالب لتصل إلى: «الشعب يريد إسقاط النظام»، بالتزامن مع بدء المعارضة السياسية والمسلحة دخول حرب التحرير الوطنية ضد النظام الأسدي المحتل للدولة والوطن والمجتمع، بحيث أضحى هذا النظام متجاوزا بسنوات ضوئية الاحتلال الفرنسي لسوريا، الذي لم يفعل في السوريين ولم يقتل منهم طيلة ربع قرن (1920 - 1946) ما قتله نظام الأسد من السوريين في 17 شهرا من عمر الثورة السورية.

مع بدء حركة الاحتجاج السلمية في سوريا، كان المتظاهرون يرفضون رفع أي علم غير علم النظام السوري. ويحاولون تبرئة مؤسسة الجيش من جرائم النظام. ولكن في ما بعد، قال المتظاهرون: «خاين ياللي بيقتل شعبه.. الجيش السوري خاين»! وصار النشطاء والمتظاهرون يرفعون علم الاستقلال، ويرفضون رفع العلم السوري الحالي، ويصفون الجيش السوري، بـ«كتائب الأسد» أو «ميليشيات الأسد»!.

في بداية حركة الاحتجاج والثورة السورية، كان النشطاء السوريون العرب، والمعارضة السورية العربية، ترفض بشكل قاطع، رفع أي علم أو رمز أو شعار كردي أو سرياني في المظاهرات الاحتجاجية! وفي ما بعد، صارت الأعلام الكردية، يرفعها الكرد والعرب السوريون ليس فقط في المناطق الكردية السورية، شمال وشمال شرقي البلاد، بل وفي حمص ودرعا ودمشق وحلب.. وصار السوريون يرددون كلمة «آزادي - الحرية»، واضطرت المعارضة العربية السورية، ولو على مضض، لقبول الواقع الموزاييكي القومي والديني والطائفي السوري، وسعت لتحصينه وتدعيمه وطمأنته، بشكل أو آخر!

وهكذا دواليك، صارت عروبة سوريا محل نقاش وتداول، وازداد عدد السوريين المطالبين بعودة سوريا لأصلها «الجمهورية السورية»، قبل انقلاب حزب البعث على الدولة والمجتمع، وتحويل البلاد إلى «الجمهورية العربية السورية». بمعنى أن الثورة السورية فتحت قوسا لسؤال كبير ومصيري، ذي عمق وخلفية سياسية.. اجتماعية.. ثقافية.. وطنية.. وحتى نفسية، مفاده: كيف يمكننا إعادة إنتاج الوطن السوري، وتطهيره من الموروث القومجي - البعثي، ذي المنحى العنصري الشوفيني؟! وصولا لتأسيس عقد اجتماعي - سياسي وطني، ينقل البلاد من ركام الفساد والاستبداد والاستعباد على مدى نصف قرن، إلى دولة المواطن والمواطنة والحقوق والمؤسسات، دولة العدالة والحريات!

وتحت سقف هذا السؤال الكبير والمهم والمصيري، ومع تنامي الوعي الوطني الديمقراطي الناضج والمنتج للسلوك الديمقراطي، يجب أن لا توجد خطوط حمراء أمام أي سؤال وطني يسعى إلى الدفع بعجلة التنمية الديمقراطية.. السياسية - الاجتماعية، على كل المستويات، بما يضمن إعادة إنتاج كل المفاهيم السابقة للمواطنة والوطنية التي أتلفها نظام الأسد - البعث، وإعادة هيكلة الدولة ومؤسساتها، بما يعزز الوحدة الوطنية وينجز العناق الوطني الكبير والعظيم عبر تدعيم وتحصين وتنمية قيم ومبادئ الاختلاف والتنوع بين مكونات الشعب السوري، من شعوب وأقليات قومية، وأديان ومذاهب وطوائف!

هكذا، بدأت المسلمات والبديهيات السابقة المتوارثة، بفعل نظام البعث، تدخل دائرة النقاش والتغيير. فحتى النشيد الوطني السوري، ينبغي إعادة النظر فيه، لاشتماله على عبارات تقارب العنصرية، نتيجة رفع النص شأن العرب والعروبة على شؤون باقي مكونات الشعب السوري، ومنح العرب السيادة على باقي الشركاء في الوطن والتاريخ والجغرافيا، وتجاهله التعدد القومي والديني في البلاد؛ إذ يقول:

عرين العروبة بيت حرام

وعرش الشموس حما لا يضام

فمنا الوليد ومنا الرشيد

فلم لا نسود ولم لا نشيد

ببدء الثورة السورية، بدأ المجتمع السوري اكتشاف نفسه.. اكتشاف حقائق مكونات نسيجه، وأنه لطالما سعى النظام الأسدي حثيثا ومستميتا إلى تصفيتها. ولأن سوريا تولد من جديد، فهذا يعني أن شهادة ميلادها، واسمها وعلمها ونشيدها، يجب أن لا يمت بأية آصرة مع حقبة القومجية البعثية - الناصرية وتركتها من سياسات التمييز والصهر والتذويب والإنكار والتصفية السياسية والثقافية، وتزوير تلك الحقبة حقائق التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا السورية. ومع كل ولادة جديدة، ثمة مخاضات وآلام، وإن ولادة سوريا الديمقراطية.. العلمانية.. الوطنية، بالتأكيد ستكون آلامها ليست فقط محصورة في مدى الوحشية التي يبديها نظام الأسد فحسب، بل من المخزون والإرث أو الموروث العنصري والشوفيني، الذي لا يمكن إنكار وجوده في المعارضة السورية. وهذا الموروث إلى زوال. لأن المصدر الرئيسي، (النظام السوري)، بوصفه أحد تجليات الأنموذج المشوه للمشروع القومي العربي، أثبتت ثورات ربيع الشعوب، في تونس ومصر وليبيا وسوريا، وقبلها في العراق، سقوطه وزواله. والإشكال الذي يجعل الولادة صعبة ومؤلمة، أن معارضات الشرق الأوسط، هي أيضا، تلوثت بموروث الأنظمة الاستبدادية التي كانت تعارضها.

أيا يكن حجم آلام مخاضات إعادة إنتاج الوطن السوري، وأيا كان مستوى تسرب الإسلام السياسي إلى الثورة السورية، فهذا لا يعني أن سوريا ستعود لنظام، يشبه نظام الأسد - البعث. ذلك أنه لم ولن يمر على سوريا نظام أسوأ من نظام الأسد الأب والابن، ولن يمر عليها حجم الدمار المادي والمعنوي الذي ألحقه هذا النظام بالوطن والدولة والمجتمع والإعلام والثقافة ومناهج التربية والتعليم.

* كاتب كردي سوري