لماذا يبقى الفقير فقيرا؟

TT

من تقاليد الـ«بي بي سي» أن تقدم سنويا سلسلة من المحاضرات في أحد المواضيع الخطيرة. وعرفت واشتهرت هذه المحاضرات باسم «محاضرات ريث» (The Reith Lectures) وكلف بإلقائها أحد عمالقة المختصين في الموضوع. وبالنظر للأزمة الاقتصادية والمالية التي يمر بها العالم الغربي الآن، فقد كلفوا العالم الاقتصادي الشهير نيل فرغسن، أستاذ التاريخ الاقتصادي في جامعة هارفارد بتقديمها. تناول في محاضراته هذه ارتقاء الحضارات ونمو اقتصادها، أو جمودها وانهيارها. وهذا موضوع خطير بالنسبة لنا، ولكل الشعوب التي تصبو إلى النهوض وتحقيق الرفاه لأبنائها. وأعتقد أن من المفيد ترجمة طروحاته ودراستها في العالم العربي. وهذا في الواقع ما حفزني لمتابعتها. لماذا تعجز بعض الشعوب عن التخلص من فقرها وتأخرها، وتنجح شعوب أخرى؟

وهذا ما حفزني إلى متابعة طروحات هذا العالم الفاضل بالاستماع إليه. بدأ حديثه بالإشارة إلى أن الشعوب الآسيوية كانت على مستوى مشابه لمستوى الشعوب الأوروبية في نحو سنة 1500، بل كانت حياة المواطن الصيني أفضل بكثير من حياة المواطن الأميركي، ولكن بحلول عام 1978 أصبح مستوى حياة المواطن الأميركي يساوي 22 ضعف المستوى في الصين. وبلغ معدل عمره 70 عاما في حين بقي عمر الصيني في حدود 40 عاما.

كيف حصل هذا التباين بين الشعوب الآسيوية والشعوب الغربية؟ إنه نتيجة النظام المتبع في العالمين. يعطي النظام الآسيوي «الدولة الطبيعية»، الدولة التي يتوقف كل شيء فيها على الحكومة المركزية والإرث، وتنحسر فيها المبادرة الشخصية فتعطي اقتصاد النمو البطيء. يطبق فيها القانون بشكل غير متساو، ولا يشارك المواطنون في الحكم. يقابل ذلك النمط الغربي الذي يعطي النموذج المفتوح للمبادرة، ويتمخض عن الاقتصاد السريع النمو. تتنوع فيه المنظمات وتتدفق الحيوية في ظل حكومة كبيرة ولكن غير مركزية. ويحترم القانون فيها بصورة متساوية.

بدأت مصر في عهد محمد علي الكبير وإنجلترا بنهضتهما الصناعية في وقت واحد تقريبا، ولكن مصر خابت في مسعاها بينما أدت نهضة إنجلترا إلى الثورة الصناعية التي درت عليها بالثروة والنمو السريع. حدث ذلك لأن الإنجليز قاموا بالثورة المجيدة (Glorious Revolution) عام 1688 التي حصرت الضرائب والتشريعات المالية بالبرلمان، فنظمها بالشكل الذي يتماشى مع مصالح النواب والناخبين الرأسماليين. تمكنوا بذلك من استثمار ثرواتهم بحرية. وهكذا أصبحت إنجلترا أول دولة تعددية تفتح أبواب العمل والاستثمار للجميع.

المؤسسات الحرة، وعلى رأسها البرلمان، تضمن النمو السريع، بيد أن هذه المؤسسات لا تستطيع القيام بدورها دون احترام القانون واستقلال القضاء؛ فصاحب المال يغامر ويستثمر عندما يعلم أن الدولة لن تتدخل في عمله وتحصد ثماره. هناك قانون يحمي مشروعه وأرباحه. ولا تصدر هذه القوانين إلا بواسطة البرلمان المنتخب الذي يرعى مصالحه. ويستطيع أن يلجأ للقضاء المستقل ليحميه من أي اعتداء على حقوقه. هذا ما لم يحدث في مصر فتعثرت مسيرتها وبقيت على فقرها. المؤسسات الحرة وسيادة القانون والقضاء هما سر النمو، كما يقول فرغسن.