عطّر الله أيامكم بالورد

TT

من ضمن الحواس الخمس حاسة واحدة عجزت عن فهمها كما يجب، رغم احترامي الشديد لها، وتعلقي بها، وخوفي منها، ألا وهي حاسة (الشم).

وثبت أن الطفل الرضيع يتأثر بالروائح كما يتأثر بالأصوات والألوان والأذواق والملامسات الجسدية، لهذا هو يهفو لصدر أمه برائحته (الحليبية) المميزة - إن جاز التعبير - ولو أن أحدا قرب من أنفه رائحة كريهة منفرة، تجد ملامح وجهه تتغضن دلالة على قرفه. فالأنف البشري بطبيعته انفعالي، لكنه يفتقر في كثير من الأحيان إلى الذكاء أو الحذق، ومن الممكن خداعه بكل سهولة، لهذا اخترعت العطور عبر الزمن.

وقفزوا منها إلى أن صنعوا علبا خاصة تبعث بروائح الحب، والصندل، وشراب النعناع، وغيرها، بل إن إحدى الشركات تبيع خراطيم ماء لري الحدائق تفوح منها روائح مختلف الأزهار والفواكه، وقد اشتريت منها أنا خرطوما تفوح منه رائحة الكرز، وفي كل يوم وقبل مغيب الشمس بساعة أرش به حديقتي لأسقيها وأعطرها وأتعطر معها، وكلما كانت ثيابي مبتلة كنت أسعد.

وفي زمن مضى أذكر أنني قضيت يوما كاملا في بلدة (غراس) في جنوب فرنسا، وهذه البلدة فيها مصانع ومعامل أشهر ماركات العطور، وأخذت أتنقل من شركة إلى شركة، وأوزع على العاملات كروتي، وهن يوزعن علي عينات من إنتاجهن، ولم أنته وأخرج لركوب سيارتي للرجوع إلى مدينة (نيس) حتى أحسست بالدوخة اللذيذة من كثرة ما استنشقت بل وشفطت من الروائح، وكنت أسير إلى موقف السيارات وأنا (أترنح) محاذرا وخائفا من أن يشاهدني أحد يعرفني فيتهمني معتقدا أنني مخمور والعياذ بالله.

عموما أنا لا أحب ولا أستعمل من العطور غير (كلونيا) الليمون الخفيفة، ولا يرفع ضغطي ويعصف بي أكثر من أن ألتقي بأحدهم وأصافح يده المزيتة، وأكتشف أنه دهنها بأحد العطور النفاذة، وهذه الطريقة أعتبرها من قلة الذوق والأدب، فما ذنب الآخرين لتفرض عليهم عطرك الذي لا يستسيغونه وقد يأتي لهم بالغثيان؟! وما أكثر المصافحات التي ذهبت بعدها للمغسلة لأفرك يدي بالصابون، بل إن بعض هذه العطور لا ينفع معه حتى الصابون، وتظل رائحتها ملازمة لي حتى وأنا متلحف في فراشي.

وقبل أيام كنت مع طفلة ترسم وتلون بألوانها الشمعية، وما إن استنشقت أقلام التلوين حتى دقت في رأسي نواقيس الذكريات، وأعادتني دفعة واحدة لأيام الدراسة الابتدائية، حيث (الحمض الاستياري) الذي يدخل في صناعة الألوان من ذلك الحين حتى الآن.

من منكم لا يعرف ولا يميز وهو (معصوب العينين) بين رائحة (العلكة) التي تحمل نكهة الفاكهة، أو بودرة (جونسون) للأطفال، أو دهان (فيكس)، أو طلاء الأحذية، أو القهوة، أو الفليت، أو روث المواشي، أو (الأسيتون) الذي ينزع طلاء الأظافر، أو الشوكولاته، أو العشب المجزوز، أو الحطب المشتعل؟!

بالنسبة لي: إن روائح الدنيا كلها لا تعدل عندي روعة رائحة شيئين:

الخبزة الخارجة لتوها من التنور، والأرض القفر الخلاء مع أول زخة تسقط عليها من المطر.

وقد تكون هناك رائحة ثالثة لا أستطيع التعبير عنها، لهذا لن أحكيها.

[email protected]