الثورات العربية: من التوريث إلى الورثة

TT

في مصر، كما في ليبيا، كما في سوريا واليمن، واضح أن الثورات التي جاءت من أجل القضاء على التوريث لم تجلب الحرية بقدر ما أنتجت معركة بين من يظنون أنهم الورثة. ربما ما زال الوقت مبكرا على الحكم على النتائج البعيدة للثورات، ولكن آيدلوجية العائلية في التفكير جعلت من خلفوا نظام مبارك ونظام بن علي ونظام القذافي، يتعاملون مع بلدانهم وكأنها تركة أب قد مات يختصم فيه الورثة مع بعضهم البعض، فيظهر في مصر مثلا نظام برأسين يتمثلان في الجيش والإخوان، وفي ليبيا واليمن أمراء حرب وبقايا نظام قديم. وكذلك الأمر في تونس على رغم قشرة من الحضارة تغلف المشهد هناك، ولكن لك فقط أن تفكر في سجن والدة البوعزيزي مفجر الثورة التونسية وموجة الاحتجاجات التي سادت منطقة سيدي بوزيد التي تفجرت منها عيون الثورة، وتصريحات الرئيس التونسي المنتخب المنصف المرزوقي، وكذلك الشقاق بين الجيش والرئاسة في تونس، لتعرف أنها معركة تقسيم تركة بين ورثة نظام قديم، معركة لا علاقة لها بفكرة الثورة كمقدمة لميلاد مجتمع أحرار يكون فيه الناس متساوين كأسنان المشط في إطار قانوني هو إطار المواطنة. ومن هنا يأتي السؤال الأكبر، هل الثقافة العربية المعاصرة بها من المفاهيم ما هو قادر على الإتيان بالحرية كنتيجة للثورات، أم أننا نستبدل استبدادا بآخر، أي نستبدل الاستبداد العسكري بآخر مغلف بغشاء ديني متوهم؟

كانت ثورات العرب في معظمها ضد فكرة التوريث. ضد أن يورث مبارك مصر لابنه من بعده، ثار المصريون وقالوا «مصر مش سوريا»، وما إن انتهت قصة التوريث حتى بدأنا نشهد معركة الورثة على تقسيم تركة مبارك والتي ذهب بعضها للمجلس العسكري بصفته وصيا على التركة وبعضها ذهب إلى الإخوان المسلمين بصفتهم الأوصياء على المعارضة الوطنية، أو هكذا خيل لهم. لم يمت مبارك بعد ولم ينطق ببنت شفة فقط همه أن يبرئ نفسه، ولو تكلم وترك عقلية الفلاحين التي تؤثر السلامة لربما وضع بعض النقاط على الحروف. أزعجنا الورثة ولم يتحدث المورث.

عندما تنهار الأنظمة في كل الدنيا ينكشف المستور ونعرف الكثير عن النظام السابق وآلياته في الحكم ولكن وبكل أسف في كل دول الثورات لم نسمع أو نقرأ أو نرى معلومة مفيدة تقول لنا كيف كان يعمل النظام البائد، إذ يبدو أن الورثة قرروا أن يحتفظوا بأسرار طريقة عمل النظام لأنفسهم كي يمارسوا الحكم ربما بنفس الآليات ولكن بشخوص جدد ونص قديم بلون إسلامي حتى تدار البلاد بنفس الطريقة وبدلا من محمد حسني نحصل على محمد مرسي والسلام.

رغم كل الاختلاف بين اليمن ومصر في طبيعة الصراع وفي تركيبة المجتمع، فإن نتيجة الثورة في البلدين كانت إلى درجة كبيرة متشابهة، اختفاء رأس النظام ويبقى النظام كما هو. يبدو في الحالة المصرية أن نتيجة الثورة هي مجرد توسيع مجال الحركة للإخوان المسلمين وإعطائهم حقهم في التركة، أما باقي التيارات فليس لها نصيب في الميراث. كان للإخوان في عهد مبارك أكثر من ثمانين مقعدا في البرلمان، وبعد مبارك كان لديهم قبل حل المجلس أكثر من 35 في المائة من البرلمان، ومنهم الرئيس، أي إن مساحة الحرية لجماعة الإخوان تضاعفت بفضل الثورة. إذن نحن هنا نتحدث عن إصلاح لنظام قديم ولا نتحدث عن ثورة بمعنى التغيير الشامل في المعمار السياسي لوطن.

كنا نتمنى في مصر أن نحصل عل مصر حرة بعد الثورة فحصلنا على اليمن.

لم يحدث في اليمن شيء سوى أن ناشطة حزب الإخوان المسلمين المعروف بالإصلاح حصلت على جائزة نوبل وربما تلك كانت أول رسالة من الغرب للإخوان بأن الغرب يريد الإخوان ولكن بثوب عصري يسمح بحرية المرأة. في اليمن انتهى عهد الوريث أحمد علي عبد الله صالح وبدأ عصر الورثة من عبد ربه منصور ممثلا للنظام القديم إلى خليط يشبه كثيرا ما حدث في مصر.

الحرب الدائرة في سوريا هي أيضا على تقسيم تركة حزب البعث بإبعاد الوريث كما حدث من قبل في العراق، فعراق ما بعد صدام بعد مرور ما يقرب من عشر سنوات على نهاية صدام وأسطورة تكريت ليس عراقا ديمقراطيا بل هو عراق الطوائف وما يسمى في العلوم السياسية والانثروبولوجية بسياسة المشاعر أو الغرائز البدائية مثل سياسة الطوائف والقبائل. سوريا في طريقها إلى تقسيم التركة على خطوط طائفية، كما قسم لبنان من قبل حول محاصصة الطوائف وكذلك العراق.

كان في السودان صراع ممتد أدى إلى انفصال نصف السودان الشمالي عن النصف الجنوبي، ولم تكن تلك قسمة عادلة، ومع ذلك يا ليت التقسيمات القادمة في العالم العربي تأتي على غرار السودان، فسيأتي يوم يكون فيه السودان هو المأمول في نهاية مطاف هذه الثورات.

ثورتنا بدأت باحثة عن الحرية وعن فضاء سياسي أرحب يجمع كل أطياف المجتمع وانتهت إلى تقسيم الوطن كتركة لميراث فاسد. لو سمعتم حديث بعض المصريين بعد الثورة مباشرة عن «التورتة»، أي الكعكة، لعرفتم أننا لن ننتهي إلى ثورة ولكن سننتهي من نهاية عصر التوريث إلى بداية عصر الورثة.

كما تكونون يولى عليكم.. فالمجتمعات الخالية من جوهر أخلاقي يحكم منظومتها القيمية لا يمكن أن يكون النظام فيها مختلفا عن سابقه، وإن اختلف فسيكون أكثر فجورا وشراسة، حيث تسيطر روح الانتقام على الورثة ومعها يضيع الإرث، والإرث هنا ليس عقارا ولكنه وطن.

ظننت في بداية الثورات أننا خرجنا من دولة ما بعد الاستعمار إلى عالم دولة الاستقلال، ولكن على ما يبدو لكي تستقل عقولنا نحتاج إلى ثورة على الثورة، فبعد الثورة لإنهاء التوريث نحتاج إلى ثورة على الورثة.