حلب تقرر مصير دمشق

TT

في الوضع الميداني، يبدو واضحا أن تعديلا طرأ على استراتيجية النظام مراعاة لظروف القوات النظامية. فقد أصيبت بالإرهاق. وتعاني من الاستنزاف في اشتباكاتها مع تنظيمات المعارضة المسلحة.

الاستراتيجية الجديدة تعتمد التركيز على الاحتفاظ بحلب ودمشق فقط. والكف عن النشر الواسع للقوات، بعد إخفاق الهجوم المضاد لاسترداد المناطق الريفية «المحررة»، في الشمال. والشرق. والجنوب.

بعد التصفية الجسدية التي تعرضت لها القيادة العسكرية/ الأمنية (18 يوليو/ تموز)، أعاد ماهر وبشار تشكيل هذه القيادة، بما يسمح لها بإحكام قبضتها على الجيش والأجهزة الأمنية. فغدا اللواءان علي مملوك وعبد الفتاح قدسية، على رأس مكتب الأمن القومي، فيما أسندت رئاسة الأركان، إلى العماد علي أيوب الذي يقال إنه صاحب استراتيجية التخفيف من نشر القوات العسكرية، وتجميعها داخل دمشق وحلب وحولهما، لضمان بقاء النظام أطول مدة ممكنة. وللادعاء أمام العالم بأنه ما زال مسيطرا على العاصمتين السياسية والاقتصادية.

إذا كان تقليص وجود القوات النظامية صحيحا، فلماذا نسمع أن الاشتباكات ما زالت مستمرة في المدن المتوسطة، كدير الزور. درعا. حمص. حماه. إدلب...؟ عمليا، لم يعد النظام يملك احتياطا كافيا للزج به، في وقت واحد، في مختلف هذه المدن.

القوات البرية التي ما زالت موالية جرى تجميعها في القواعد العسكرية والجوية في مختلف أنحاء سوريا. ومنها يتم قصف المدن الثائرة بمدافع الهاون والصواريخ. والإغارة عليها بأسطول حديث ومتطور من طائرات الهجوم المروحية التي زودت بها روسيا نظام بشار. ولا تملك فصائل المعارضة المسلحة، بعد، السلاح الثقيل أو العدد الكافي من المقاتلين، ولا سيما المنشقين عن الجيش، لاقتحام هذه القواعد.

إحكام السيطرة على دمشق وحلب يقتضي إبقاء الطريق الدولي الرئيسي بينهما سالكا أمام حركة القوات النظامية. النظام يعاني من صعوبة بالغة في تأمين هذا الطريق (نحو 400 كيلومتر)، ولا سيما في مفصل حمص/ حماه. ولم تستطع قواته السيطرة تماما عليهما، على الرغم من «التطهير المذهبي» للقرى السنية في سهل الغاب المجاور، من خلال المجازر المروعة التي ارتكبتها الأجهزة الأمنية، ورديفتها ميليشيا النظام (الشبيحة) المنطلقة من القرى العلوية هناك.

في دمشق، استعادت القوات النظامية السيطرة على الأحياء والضواحي الشمالية (برزة. القابون. حي الأكراد). والشرقية (جوبر. حرستا. دوما). وارتكبت الشبيحة مجازر متعددة ضد السكان المدنيين. في جنوب دمشق، عاد الهدوء النسبي إلى حي الميدان الضخم. لكن الاشتباكات ما زالت مستمرة في أحياء البؤس المجاورة (التضامن. القدم. نهر عيشة. الحجر الأسود. مخيم اليرموك أضخم المخيمات الفلسطينية في سوريا).

الاعتقاد السائد هو أن أغلبية المسلحين المتسللين إلى جنوب دمشق أتت من سهل حوران (درعا)، وبينهم مسلحون سلفيون أردنيون، بالإضافة إلى المسلحين المحليين. ولا تعني السيطرة على دمشق أن النظام حسم الوضع فيها. فالدمشقيون (الشوام) يتوقعون مسلسلا متواليا من التسلل لهز قبضة النظام على العاصمة. وهو يستخدم الصواريخ والمدفعية المنصوبة على أعلى جبل قاسيون لقصف الأحياء المتمردة.

انفرجت الأزمة التموينية في العاصمة. خف التزاحم على الأفران ومحطات البنزين. فرت قطاعات من البورجوازية الدمشقية إلى لبنان، وسبقتها إليه مدخراتها ورساميلها المالية، ظنا بأن لبنان أكثر أمنا وأمانا من سوريا. أما الأسر العلوية فقد فرت من «مستوطناتها» في أطراف العاصمة، إلى مسقط رأسها في الجبال المطلة على الساحل السوري، تاركة وراءها شبابها (الشبيحة)، وجنود الحرس الجمهوري، في قواعدها وثكناتها في قلب المدينة وضواحيها.

في إطار الاستراتيجية الجديدة، يحاول النظام استعادة مدينة حلب من التنظيمات المسلحة التي سيطرت على أطرافها وأحيائها الشعبية، وصولا إلى قلبها. ولأنه لم يعد يملك قوة احتياطية كافية في الشمال، فقد زج في معركة حلب، بآخر ما تبقى له من القوات المدرعة المنسحبة من الأرياف الشرقية والغربية.

كان الانسحاب من محافظة إدلب (غرب حلب) تاما، الأمر الذي مكن الجيش الحر هناك من الإيقاع بالمنسحبين. فدمرت دبابات. وأسر جنود. وضباط. وشبيحة. بل اتجهت فصائل مسلحة من إدلب إلى حلب، للمشاركة في معركتها الفاصلة.

معنويات الثوار في حلب عالية، على الرغم من النقص في الذخيرة والعتاد. يتراوح عدد الفصائل المقاتلة بين ثلاثة آلاف، إلى خمسة آلاف مقاتل. ويتوقع أن يرتفع العدد إلى عشرة آلاف مقاتل، إذا ما طالت المعركة أسابيع. ولعل قسوة المعركة تجبر هذه الفصائل على الالتحام والتنسيق بينها.

المعركة بدأت، عمليا، صباح السبت الماضي، بعد قصف جوي استمر نحو أسبوع بالمروحيات والطيران النفاث. لكن محاولة القوات النظامية، في هجمتها الأولى، استعادة حي صلاح الدين الثائر (غرب المدينة) أخفقت.

هذا هو مجمل الوضع الميداني. على المستوى السياسي، أكتفي بالقول، إن معركة حلب ستقرر مصير دمشق. فمعركتها محتمة، إذا تمكن الثوار من الاحتفاظ بحلب. إذا استعادت قوات النظام حلب، فآمل أن أكون مخطئا، في تحميل تركيا التي تدير المعركة من خلف الحدود، مسؤولية الخسارة الفادحة. فقد شجعت ودفعت إلى المدينة بأعداد غير كافية من الثوار، للصمود أسابيع طويلة في مدينة محاصرة.

تركيا، في الواقع، تخوض معركة سوريا بالكلام. لا بالسلاح. نعم، ساعدت في تحرير ريف حلب. لكنها مع قطر والولايات المتحدة ما زالت مترددة في تسليح الثوار. السبب التأخر في فرز فصائل الثورة، لتجنب خطر تسليح الفصائل الجهادية (القاعدة).

يخوض الثوار السوريون معركة حلب وحدهم. وهم يعلمون أن العالم قد تخلى عنهم. لا تركيا. ولا أميركا. ولا أوروبا، ستدخل في هذه المرحلة «الأولمبية». حتى أردوغان ذهب إلى لندن. واكتفى بالصلاة والدعاء هناك، لثوار حلب بالنصر.

موقف الجامعة العربية ليس بحال أحسن من تركيا. سحبت الجامعة التفويض العربي من المبعوث الدولي كوفي أنان. لكنها ما زالت تتفاهم معه بلغة بوتين الروسية! فقد دعت إلى تشكيل حكومة انتقالية من معارضة الداخل. والخارج. والجيش الحر... ومع من أيضا؟ آه. مع «نظام الأمر الواقع». مع نظام بشار!

مع ذلك، تحفظت الجزائر. العراق. لبنان، على قرارات الجامعة، بحجة أنها تتدخل في شؤون سوريا الداخلية. وتمس بكرامة الرئيس الجزار، بدعوته إلى التنحي. لا عتب على «ملا» العراق نوري المالكي. ولا على «الملا» عدنان منصور وزير خارجية «آية الله» نجيب ميقاتي. إنما العتب على بوتفليقة. ينسى الرئيس الجزائري أن ملايين السوريين الفقراء تبرعوا بنقودهم. بمدخراتهم. بحليهم، للثورة الجزائرية، لتعيش الجزائر عربية. حرة. مستقلة.

لا أطالب سي بوتفليقة بأن يتبرع لملايين السوريين الفقراء الثائرين. إنما، على الأقل، أن يرد الجميل للخليجيين المنتصرين لأشقائهم السوريين. فقد آواه الخليجيون وأكرموه، عندما تقطعت به السبل في صحراء السياسة.