نظام جديد أو الفوضى الجديدة!

TT

في 20 أبريل (نيسان) 2011 نشرت في هذا المكان مقالا تحت عنوان «نظام إقليمي عربي جديد» حاولت فيه أن أستشف ملامح مستقبل «النظام العربي» في ظل التغيرات الجارية في الإقليم والتي جرت تسميتها «الربيع العربي». والحقيقة أن المحاولة لم تحقق نجاحا كبيرا فيما عدا رصد الحالة المفاجئة من النشاط والإيجابية التي اعترت «الجامعة العربية» التي بلورت الصيغة المؤسسية للنظام العربي القديم (ما قبل الربيع!) وبدا أنها تحاول الإشراف على عمليات التغيير الجارية بالتعاون مع المجتمع الدولي، فتعطيه «الشرعية» وبعض مصادر القوة، أما العالم فيعطي ليس فقط أيضا شرعية عالمية وإنما حينما يريد مصادر أساسية للقوة. جرى ذلك في حالته النقية في ليبيا، وفي صورة أقل كفاءة في سوريا التي لا يزال الربيع فيها ملتهبا بالحرارة والدماء الساخنة.

الفارق ما بين ليبيا وسوريا يعكس ما جرى لمكونات النظام والتي بالضرورة تغير من تواترات وتفاعلات أثرت عليها الفترات «الانتقالية» التي جرت في دول الربيع وألقت بظلها على الحالة السورية فأخرت نهايتها المنطقية ورفعت من ثمن هذه النهاية، وأيضا على مشاريع الربيع التي لم تنطلق إلى ساحة الثورة في السودان وموريتانيا. ولكن المسألة هي أن النظام يعتريه تيار جارف، ينهض به الشباب ويصبون فيه خصائص السن من اندفاع برفض التروي، وبساطة تعترض على التعقيد. ولكن نهر الشباب الذي أتى من تغيرات ديموغرافية كثيرة (أبرزها انخفاض معدلات وفيات الأطفال والأمهات عند الميلاد) تصب فيه قوى كثيرة، فتأتي الأحلام من المجتمع المدني، والقوى المتمردة على مجتمعات تقليدية تعيش في قلب عالم حديث بالتكنولوجيا والثروة فتخرج إلى أرض الله الواسعة. ولكن هناك دوما القوى المنظمة التي عجزت طوال العقود الماضية عن الولوج إلى قصور السلطة، فوجدت فرصتها التاريخية لكي تعطي النهر المندفع الضفاف والمسار، والمنبع والمصب. ولم يخل الأمر أحيانا من قدرات سياسية أدهشت القوى الثورية الأصلية أو من بقي منها حينما استخدمتها حسب الظروف والأوقات ثم تركتها على أول ناصية في الطريق. ولمن يريد أمثلة، ما عليه إلا أن يتابع صحف القاهرة، وما جرى لـ«الجبهة الوطنية» التي تكونت بين قوى الثورة و«الإخوان المسلمين» قبل الإعلان عن نجاح الرئيس الجديد للسلطة.

أصبحت جماعة الإخوان في صدر ملامح النظام الجديد وقد فازت بالسلطة أو القدر الأعظم منها في المغرب وتونس ومصر واليمن، وهي الآن المتصدر للمعارضة في بلاد جرت فيها الثورة مثل سوريا، أو لم تجر بعد في دول أخرى تصورت أن «التقليدية» تعطيها عصمة دينية كافية، فإذا بها تجدها طارقة الأبواب تحت راية الدين والشريعة مرة، فإذا عزت المطالب، كانت الديمقراطية هي السلاح مرة أخرى. الاتساق هنا لم يكن مهما أبدا، فالأدوار تتبدل حسب الفرص المتاحة، ومن يستطيع أن يقف أمان شرعية الشريعة، فإذا عز المنال فمن يقف أمام شرعية صناديق الاقتراع؟

الحالة تبدو قريبة مما جرى في الخمسينات، فالانقلابات العسكرية التي صارت «ثورات» من خلال تدخل الدولة للهيمنة على التعليم والصحة والسوق والإعلام أضافت لها جرعة من «القومية العربية» كانت القضية الفلسطينية زادها ومصدر شرعيتها. ولكنها كانت من ناحية أخرى هي التي أخذتها ليس فقط نحو الهزيمة العسكرية، ولكن أيضا العجز الاقتصادي، وظل التآكل في النظام حتى شحبت الثورات القديمة ولم يبق منها إلا مؤسسات شائخة، ومضحكة أحيانا (راجع حالة القذافي في ليبيا، وحالة نسبة العمال والفلاحين في مصر). ومع مطلع العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين أخذ «النظام» في التهاوي مفرزا حالة من الفوضى تسمى أحيانا «المرحلة الانتقالية»، وأحيانا أخرى حربا أهلية ذروتها تراها في الحالة السورية.

وإذا ظل مثال الخمسينات من القرن الماضي جاريا، فإن نتيجته كانت ما سماه الأكاديمي الأميركي مالكولم كير «الحرب الباردة العربية» في كتاب شهير. هذه الحرب لم تكن مجرد انعكاس للحرب الباردة الجارية على مستوى العالم آنذاك بين الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية في جانب، والولايات المتحدة والكتلة الرأسمالية في جانب آخر؛ وإنما كانت انعكاسا لشرخ عميق داخل الدول العربية لم يكن كله راجعا لفكرة القومية العربية، وإنما كان حسب الموقف الراديكالي أو المحافظ منها. والأهم كان إلى أي حد يعيد ترتيب توازنات القوى في المنطقة بين دول الماء ودول النفط، وبين من يريدون تصدير الثورة، ومن يرفضون استيرادها.

القصة لا تعيد نفسها بتفاصيلها، و«النظام» إما أنه معرف بالكلمة الإنجليزية «System» أي مجموعة من أنماط التفاعلات المتوترة التي يمكن التعرف عليها بطريقة مؤسسية أو حتى على سبيل العرف والضرورة؛ أو أنه وبالإنجليزي أيضا «Order» تستقر فيه التعاملات، ويصبح فيه هرم القوة معروفا ومحددا لعرض كل دولة ومطالبها. وهنا تقام التحالفات التي واجهت إسرائيل في حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973؛ وواجهت «العولمة» وموجاتها الديمقراطية الأولى بالتأكيد على تحالف «الاعتدال العربي»؛ وواجهت خطر الإرهاب الذي كان عالميا وإقليميا ومحليا.

أردنا أو لم نرد انهار هذا النظام، وفي البداية عندما جرت الثورة في تونس كنت مع آخرين في القاهرة من ظنوا أن مصر ليست تونس، ولكن عندما ثار ميدان التحرير أصبحت كل الميادين الكبرى موضع نظر. وأصبح السؤال هل تجرى قواعد اللعبة بين الدول العربية في اتجاه خلق نظام «Order» أو هكذا ما تحاول الجامعة العربية ترتيبه؛ أو نظام «System» للتفاعل بينه وبين الفوضى الكاملة مساحات ليست قليلة.

الفوضى حتى الآن عرفنا بعضا منها حتى قبل الربيع في العراق؛ وكان الانفصال في السودان إحدى وسائل التعامل مع فوضى ضاربة ليس في الجنوب وحده وإنما في دارفور وكردفان. ولكن الثورة أعطتنا أمثلة جديدة رغم الانتخابات والفارق في ليبيا واليمن ومصر التي عرفت الدولة لأكثر من خمسة آلاف عام. الحالة السورية هي الأخرى منذرة لأن امتدادات الفوضى فيها ممتدة في العراق، والحدود مع تركيا، حيث القضية الكردية قائمة ومستعصية، والحدود مع فلسطين، حيث توجد القضية المركزية والأزلية، والحدود مع لبنان، حيث توجد حزمة من المشكلات المستعصية والقائمة منذ النظام العربي السابق، والحدود مع العراق، حيث تمتد التقسيمات والشروخ حتى تصل المنظومة كلها حتى طهران.

هذه المرة لا تبدو المسألة حربا باردة جديدة حتى ولو كانت هناك مؤشرات عليها بازغة؛ وإنما هي في جوهرها مفارقة للنظام سواء بهذا المعنى أو ذاك، تنظيما للتفاعلات على كثرتها، أو هي حالة هائلة من الفوضى تجرف الحدود والشعوب والعرقيات والأحقاد المغروسة في تاريخ ممتد. إنها حالة قريبة من أوروبا في القرن التاسع عشر؛ ولكنها بالتأكيد ليست مثل أي حالة أخرى في مطلع القرن الواحد والعشرين.