الظواهري الأخ.. المضمر والمسكوت عنه!

TT

ذات مرة وصف الفيلسوف الفرنسي فولتير الأصولي (النسخة الأرثوذكسية) بأنه الشخص الذي اعتقد أن روح القداسة التي تملؤه فوق القانون. من هنا تبدو الأصولية باعتبارها آيديولوجيا مغلقة أحد أشد الأنماط الفكرية عداء لفكرة «التعددية»، ذلك أنه يعتبر الحقيقة التي يعبر عنها مطلقة ومتعالية على الواقع، حتى لو اقتضت الممارسة المصلحية (البرغماتية) التنزل مع الخصوم على مستوى الوسائل، لا الغايات، ومن هنا تبدو الأصولية أكثر الأفكار إحرازا للتقدم في زمن الاضطرابات السياسية والاحتجاجات التي تتخذ شكل الثورة أو تتوسلها باتجاه الفوضى، هذا التقدم ليس معبرا بشكل حقيقي عن قوة الأصولية على الأرض أو الواقع حيث لا تشكل رقما كبيرا في بعض البلدان أو تكون قارة وكامنة في شبكاتها الاجتماعية الضيقة «المنعزلة» في نماذج أخرى، لكن سبب تقدمها هو منطقها، تلك اليقينية الباذخة في حديثها وهي ما تحتاج إليه الحشود الحائرة في معركة التغيير نحو الأفضل.

الأصولية تحمل ميكانزم بقائها في داخلها عبر آلية العنف، وهي ليست بالضرورة عنفا محصورا في «السلاح»، بل ثمة أسلحة معنوية لا تقل عنه خطورة كالتكفير والحصار الفكري واختراق السلام المجتمعي عبر آليات الطرد بمعايير دينية حتى في أكثر المسائل دنيوية.

بطبيعة الحال هناك الكثير من الحديث يمكن قوله حول طبيعة «الشخصية الأصولية» وأنها غير مرتبطة بدين، بل تستخدم الشعارات الدينية كقناع مفاهيمي لتمرير آيديولوجيتها نحو السلطة، وربما كانت دراسة الباحثة كارين آرمسترونغ «الأصولية في الأديان التوحيدية» أحد أهم المؤلفات في تلمس جذور الأصولية في الخطابات المتطرفة التي تتكئ على رافعة الشعارات الدينية، لكن ذلك أيضا ليس مقتصرا على أصوليات الأديان، بل يتخطاها إلى أصوليات وضعية ربما كان من أشهرها نظرية العنف الثوري التي عرفتها الشيوعية في منحنياتها الحادة.

مثل هذا الاستحضار لتاريخ الأصولية مهم الآن جدا حيث التاريخ يعيد نفسه، فهناك حالة من العودة إلى الأصولية عبر بوابة الديمقراطية وتتخذ أشكالا متعددة، أبرزها المثالية في عالم السياسة، وشخصنة المخلص السياسي في الخليفة الذي يحاط بهالة من التقديس تتمثل في تتبع كل حركاته وسكناته ورصدها بمقياس طهوري لا ينتمي إلى عالم السياسة، وصولا إلى استحداث أن كل أصولية عادة ما تخلق شياطينها وأعداءها عبر استحضار مؤامرات ومحاكمة المخالفين بمنطقها، كما أن إحدى أهم علامات الأصولية السياسية هي أن قيمها تم اجترارها من تجربة الحزب الضيقة وليست كمشروع أنتج عبر عملية توافق سياسي بين كل الأطراف.

التعبير عن «الأصولية» بحاجة إلى شخصية شجاعة جدا، وهو الأمر الذي عادة ما يخفق فيه خطاب الإسلام السياسي وتنجح فيه مجموعات السلفية الجهادية بتنويعاتها، وربما كانت المقابلة المثيرة جدا التي أجراها المهندس محمد الظواهري القيادي بتنظيم الجهاد، شقيق الدكتور أيمن الظواهري قائد تنظيم القاعدة الدولي، مع جريدة «الوطن» المصرية، الذي برز في أحداث العباسية في مصر، أحد أبرز الأمثلة الصارخة على لعبة المضمر والمسكوت عنه بين السلفية الجهادية والإسلام السياسي. الظواهري كان صريحا بما يحمل حتى أعداءه على احترامه، بحيث لم يتخذ مواقف مراوغة، مثل إسلاميين آخرين يقولون للإعلام غير ما يملونه على الأتباع والمناصرين، فهو يرفض القوانين الوضعية التي جاءت بالديمقراطية، كما أنه اعتبر «العلمانيين» على حد وصفه عائقا أساسيا في مصر نحو الدولة الإسلامية، ولم ينسَ في غمرة حديثه الصريح الدفاع المستميت عن تنظيم القاعدة والهجوم على الغرب ورأس الشيطان القاعدي الولايات المتحدة. لكن المثير في الحوار الطويل معه أنه صرح بقناعته في الموقف من الدستور فضلا عن الإعلان المكمل الذي اعتبره صنم العجوة الذي صنعه المشركون! وأن المجلس العسكري ما هو إلا امتداد لنظام مبارك غير الشرعي، فإن كل هذه التعبيرات تحمل ذات المضامين التي يرفعها الإخوان وإن كان بلغة سياسية.

الظواهري لا يخاف الإخوان وإنما ينتظر وعودهم كما يقول، خصوصا في ما يتصل بالدستور الذي يراه علمانيا لا يمكن أن يصير الرئيس مرسي خلفية للمسلمين إلا إذا طبق الشرع وأسقط القانون، لذا فهو وكل السلفيين الذي يناصرون الإخوان منتظرون لحظة الحسم، فتحقيق «الخلافة بالانتخابات يعني أن مرسي سلك طريقا خطأ إلى أن وصل إلى الحق».

وإذا كانت هذه الآراء بحدتها وقسوتها مفهومة ومبررة ضمن البناء الفكري لجماعات الجهاد، فإنها والحق يقال تستند إلى المنزع الشرعي ذاته لدى الشريحة الأعم من كوادر جماعات الإسلام السياسي المعزولة عن «هرطقات» قادتها السياسية ومواقفهم المتباينة، فهم في نظر أهل الحل والعقد الأعلم بالمصلحة الشرعية، وهو ما يعني أن باب التحولات مشرع باتجاه التشدد بحسب ظروف المرحلة المقبلة، وهي أجواء تشبه تحول قطاعات واسعة من الإخوان في أواخر السبعينات إلى الثمانينات الميلادية نحو أفكار الجهاد لأسباب لا علاقة لها بالواقع على الأرض، وإنما باعتبار أن تلك الجماعات كانت الأكثر تعبيرا عن أزمة «الخطاب» نفسه وعقدته «الهوياتية».

ربما كان المفاجئ لي في الحوار هو تحليل «الظواهري الأخ» للثورات بعكس السائد لدى التنظيمات الجهادية، التي ترى أن ما جرى من احتجاجات شعبية كانت فرصة ذهبية للتغيير والخلاص من «الطاغوت» ولو بطريق سلمية، لكن الظواهري يرى أن الثورات لم تكن سلمية وأن ضحاياها أكبر بكثير من كل عدد قتلى العمليات الجهادية في العالم من المسلمين، وهو تحليل يقترب من حدود السذاجة إذا ما أخذنا في الاعتبار الفرق الكبير بين ضحايا الاحتجاج السلمي بسبب القمع الأمني، وضحايا المواجهات المسلحة سواء من الناحية القانونية أو قصدية الاعتداء والقتل.

الجديد أيضا هو تفسير الظواهري لعلاقة الإسلام السياسي بأميركا، وهو تحليل مشابه للتفسير القومي واليساري مما جرى، وإن كان بدوافع أخرى مع أنه استخدم مصطلح «الفوضى الخلاقة» الذي بات كـ«اللبانة» يلوكها الجميع حتى طيب الذكر توفيق عكاشة، لكن الظواهري رأى أن أميركا قبلت بتغيير الأنظمة وتسليمها للإسلاميين بسبب ضغط الجماعات الجهادية عليها ولتخفيف احتقانهم ضد الغرب، الذي تبدى في شكل عمليات انتحارية.

وإذا كان مضمر الحالة السياسية في الزمن الأصولي قد بدت بشكل صريح ومباشر على لسان الظواهري الأخ، فإن «مضمر» الحركات الجهادية الذي لم يقُلْه الظواهري هو تلك الثقة الشديدة التي كان يتحدث بها وهو يتحدث عن قدرة الجهاديين على الضغط على الجميع ابتداء بالرئيس مرسي وانتهاء بالغرب، وهو الأمر الذي تشير الدلائل إلى صدقه إذا ما أخذنا في الاعتبار حالات العفو عن أشخاص في تنظيم الجهاد محكوم على كثير منهم بأحكام قاسية تصل إلى الإعدام من لدن الرئيس محمد مرسي، حتى قبل أن يقول كلمة في الذين ما زالوا معتقلين من شباب الثورة الذين ما عاد لهم صوت سوى نقرات حانقة يبعثونها من الكيبورد نحو عالمهم الافتراضي!