وما أدراك ما حلب؟

TT

تتوجه أنظار العالم المتابع لتداعيات الثورة السورية إلى مدينة حلب؛ لأنها أكبر المدن السورية وقلب البلاد الاقتصادي.. أصبحت خارج منظومة الحكم، وباتت بشكل أو بآخر وأكثر من 70 في المائة من أحيائها في قبضة الجيش السوري الحر، فهو الذي يدير المخابز والمستشفيات والمرور والدفاع المدني والإسعاف، واحتل مراكز الشرطة والمخابرات.

حلب بقيامها بهذا الشكل تسببت في صدمة هائلة للنظام السوري، فهو كان «ضامنا» ومتأكدا من ولاء حلب التام، سواء بمشايخها في المساجد المرتبطين بشكل مباشر بمفتي الجمهورية، أو بتجارها وصناعها الذين كانوا ينالون من المزايا ما لا يناله غيرهم، ومجموعة «محسوبة» من العشائر كانوا على علاقة قوية بالمخابرات وأجهزة الأمن، وكانوا يتولون دعم الشبيحة وتوفيرهم حتى باتوا ضامنين لولاء حلب وأهلها «بالقوة» والترهيب.

وحلب نفسها كانت دوما مثالا للتعايش الاستثنائي، فهي خليط من كل الأعراق والأطياف والمذاهب. فيها جالية مسيحية مهمة جدا قيمة وعددا، وكذلك فيها جالية أرمنية مؤثرة ولافتة، مع عدم إغفال الجالية الكردية أو الإيطالية أو التركية.

حلب التي أفرزت نماذج لا تنسى من علماء الدين مثل عبد الرحمن الكواكبي، أهم من تحدث عن الظلم والاستبداد والطغيان، وعبد الله سراج الدين وعبد القادر عيسى، وغيرهم، مع عدم إغفال أسماء رنانة في عالم السياسة كان لها المجد والتأثير، مثل رشدي كيخيا، مؤسس حزب الشعب العريق، أو ناظم قدسي رئيس الجمهورية في قلب عهد سوريا الديمقراطي القصير، وسعد الله الجابري، السياسي الاستثنائي الوطني المخضرم الذي تسمى على اسمه الساحة الأهم في قلب حلب.

حلب لم تكتف بتقديم هذه العينات من الناس، ولكنها قدمت أهم رموز التجارة والصناعة والاقتصاد في سوريا لأسر مثل ميسر والعداس والجابري والمسلاتي وحمامي والزعيم وكيالي وغيرهم، بل إن حلب قدمت أيضا أسماء عظيمة في الفنون بكل أشكالها، فمن ينسى لؤي كيالي أهم فنان تشكيلي في تاريخ سوريا، أو صباح فخري المطرب السوري الأشهر، وميادة الحناوي الصوت السوري الأشهر، أو وليد إخلاصي أحد أهم روائيي سوريا، كلهم من أبناء حلب.

هذه هي المدينة العريقة صاحبة الطراز المعماري المميز والمطبخ ذائع الصيت. من هذه المدينة التي سميت حلب الشهباء؛ لأن نبي الله إبراهيم عليه السلام حلب بقرته الشهباء فيها، واحتوت بعد ذلك إحدى أهم القلاع في التاريخ الإسلامي، قلعة حلب، لتصبح اليوم حلب هي قلعة الثورة، وبمواجهتها لقوات الأسد بطائراتهم ودباباتهم وصواريخهم وعدم تمكينهم من دخول المدينة أبدا، كبدوا النظام خسارة نفسية ومعنوية بالغة الخطورة والأهمية.

النظام يدرك أن سقوط حلب في أيدي الثوار هو نهاية عملية لأي نوع من الجدل الذي يروج له من أنه يحكم سوريا، وأن ما يحدث فيها هو «حرب عصابات مسلحة»، والثوار يدركون تماما أن حلب هي الجائزة الكبرى، هي الجدار الأعظم الذي ستسقط عليه كل حجج وأكاذيب وأساطير ودجل نظام الأسد. وبالتالي هي ليست فقط أم المعارك، ولكنها «المعركة» نفسها. لم يتوقف القتال في سائر المدن بما فيها العاصمة دمشق، وكذلك في المدن الأخرى: درعا ودير الزور وحمص وحماه، ولكن التركيز يبقى على المدينة الأولى والكبرى، وخصوصا بعد نجاح الثوار في تأمين خط حدودي متصل مع الحدود التركية لتوصيل الأطعمة والأدوية والسلاح، سيعطي ذلك الأمر الثوار العزيمة والتشجيع والمدد اللازم لمواصلة المشوار، بل الانتصار الذي يبدو قريبا جدا.

الأتراك من جهتهم يعدون العدة على حدود سوريا بالعتاد والجنود لأجل ضربة استباقية ضد أي حراك كردي يجهز له السوريون والإيرانيون لتوسيع طموح الأكراد لتأسيس دولة لهم، وهي مسألة مستحيلة وخط أحمر بالنسبة للأتراك. مشهد حلب الأخير هو الذي سيكون مسمار النعش الأخير في نظام آن أوان الخلاص منه ودفنه. حلب قيل عنها قديما إنها بلد الطرب والكبب، ولكن من الممكن إضافة أنها بلد الأخذ بالثأر والكرامة.

[email protected]