خادم الحرمين والتضامن العربي والإسلامي

TT

ما كانت هذه هي المرة الأولى التي يدعو فيها الملك عبد الله بن عبد العزيز إلى مؤتمر للقمة الإسلامية بمكة للتصدي للمشكلات، وبعث روح التضامن في أوصال الأمة. فقد سبق له عام 2005 عندما تولى السلطة أن دعا إلى قمتين إحداهما إسلامية والأخرى عربية. وقد حددت القمتان منحى وسياسات صارت بمثابة ثوابت للسياسة الخارجية السعودية. فقد أبى الدخول في المحاور أو الاستقطابات، واعتمد مسارات تضامنية في المجال العربي والمجال الإسلامي. ولا ننسى أن المسلمين (والعرب من بينهم) كانوا يعانون على الخصوص من آثار هجمات الأميركيين في أفغانستان والعراق، والحرب التي أطلقتها الولايات المتحدة على الإرهاب، واستنزافات شارون في فلسطين، والاندفاع الإيراني للإفادة من الحروب الأميركية المشنونة على العرب والمسلمين. وهكذا فقد بادر الملك إلى محاورة الأميركيين والإيرانيين، كما حاول استيعاب آثار الحرب على العراق، والانقسام في فلسطين.

وما اكتفى الملك عبد الله بن عبد العزيز بالقمتين الإسلامية والعربية، بل قاد سياسات تضامنية واستيعابية في القمم العربية الأخرى. كما مضى باتجاه الحوار العالمي للأديان والثقافات لإخراج العرب والمسلمين من مقولة صدام الحضارات.

وقد كانت لمبادرات القمم التضامنية ولقاءاتها آثار مختلطة تبعا للمصالح التي كانت حقبة الهيمنة الأميركية قد أعادت إنتاجها. فقد لطّفت إدارة الرئيس بوش في فترته الثانية من غلوائها من دون أن تغير الخطوط الأساسية لسياسات المواجهة، وبخاصةٍ في مصارعة الإرهاب، والإصرار على قلب الموازين في العالمين الإسلامي والعربي. وبسبب الآثار الفظيعة لتلك التوجهات الأميركية على العرب والمسلمين، فقد اتجه الملك إلى الإيرانيين والأتراك، وإلى السوريين والفلسطينيين والجزائريين والقطريين.. إلخ للإخراج من ممارسات الاستقطاب والتجاذب باسم الولايات المتحدة أو باسم معاداتها. وقد شهدت اجتماعات القمم الاستثنائية وغير الاستثنائية تجاذبات عنيفة حين كان الملك وكانت السياسات السعودية تسعى بكل ما في الوسع لإخراج العرب من الاستقطاب لصالح القوى الإقليمية والدولية، ولصالح الانقسام والتصارع بالداخل. وما أمكن مَنْعُ الانقسام الفلسطيني رغم عهود مكة والقاهرة وبقية العقود. كما لم يمكن إقناع السوريين بالخروج من سياسات الاستنزاف في لبنان والعراق. وقبل ذلك وبعده ما أمكن إقناع إيران بتقديم أَولويات التضامن على اعتبارات التجاذب والتقاسم مع الولايات المتحدة، وعلى حساب العرب دائما وأبدا!

لقد حدثت عام 2010 ثلاثة أمور في وقت واحد: اتفاق الأميركيين والإيرانيين على تولية المالكي لرئاسة الوزارة للمرة الثانية في العراق، واعتماد الأميركيين عليه أثناء انسحابهم - وعودة السفير الأميركي إلى سوريا - وانقلاب بشار الأسد وحزب الله في لبنان على حكومة سعد الحريري لصالح نجيب ميقاتي. وكان المقصود من هذه الأمور الثلاثة الإشعار بوراثة إيران للولايات المتحدة بالمنطقة في مقابل الاستمرار في صون أمن إسرائيل، والإشعار بهيمنة المحور الإيراني على المشرق العربي (العراق – سوريا - لبنان)، مع السعي لإقناع الأميركيين (بالتهديد والوعيد) بالأرجحية في الخليج، وبالملف النووي!

وما كاد الأميركيون ينجزون انسحابهم من العراق حتى اندلعت الثورات العربية بادئة من جنوب المتوسط إلى شرقه، غير متجاهلة اليمن أيضا. وللثورات عوامل داخلية أساسا، لكنها تؤثر بقوة في الوضع الاستراتيجي بالمنطقة. وتوجست إيران من الثورات شرا، وكذلك النظامان العراقي والسوري. لكنهم عزّوا أنفسهم بأن الأميركيين إنما انقلبوا على أصدقائهم وهم ليسوا من أصدقائهم! ثم نشبت الثورة السورية ولا تزال، ووقف الإيرانيون والروس ضدها ولا يزالون. ومع الإيرانيين الذين يساعدون الأسد بالمال والسلاح واللوجيستيات، جاء حزب الله بالطبع الذي أعلن زعيمه مرارا أنه لن يتخلى عن «رفاق السلاح» في نظام الممانعة والمقاومة!

وهكذا، وعلى مشارف القمة الإسلامية الاستثنائية التي دعا إليها الملك عبد الله بن عبد العزيز بمكة، نجد الظواهر التالية:

أولا: هناك حاجة قوية بالفعل للتشاور لمنع المزيد من الانقسام، ولتجنب العودة إلى الاستقطاب في المنطقة وعليها. فإيران تقود اتجاها للتقسيم والانقسام في العراق وسوريا ولبنان واليمن. وروسيا تتجه لإحياء الاستقطاب الدولي القديم من طريق التجاذب مع الولايات المتحدة على سوريا.

ثانيا: هناك ثلاثة أنوع من المشكلات في العالمين العربي والإسلامي: مشكلات موروثة من الحرب الباردة، ومشكلات أنتجتها فترة الهيمنة الأميركية، ومشكلات أنتجها الاستقطاب الذي تريد إيران إنتاجه بالقوة ضد الجميع: فإمّا أن تكون تابعا أو تكون عدوا لنظام آيات الله!

ثالثا: هناك ظاهرتان جديدتان هما بمثابة فرصة وتحد في الوقت نفسه: تغير السياسات الأميركية بالمنطقة، وقيام حركات التغيير العربية المعادية للتبعية الإقليمية أو الدولية. فهذه فرصة لبناء سياسات عربية وإسلامية تملأ الفراغ أو الخواء الاستراتيجي الذي تحدّث عنه الأمير سعود الفيصل. لكن هناك تحديا ناجما عن سياسات المحاور التي لا تزال إيران تتبعها تارة باسم الهلال الشيعي، وتارة أخرى باسم المقاومة والممانعة، وتارة ثالثة باسم مواجهة الهيمنة الأميركية. فقد اعتقد الإيرانيون أن الولايات المتحدة إنما تنسحب تحت وطأتهم واستجابة لضغوطهم. لكنهم يجدون أنفسهم اليوم محاصرين حصارا محكما للتخلص من ملفهم النووي. كما يجدون أنفسهم يواجهون تأزما منقطع النظير في المحور الذي بنوه وأحكموا بناءه في العراق وسوريا. وسيتطور الأمر بلبنان ولا شك إلى مواجهة لغير صالح إيران إن ظل الحزب على سياساته!

وهكذا فإن لدى القمة بلدانا محددة يفجرها التأزّم، وقضايا ما وجدت حلا وهي تتجه للتأزم من جديد، وهناك القضية الكبرى المعنية بالتضامن الإسلامي للخلاص من المحاور والاستقطابات. لدينا إذن الأزمة الهائلة الناشبة بين الشعب السوري ونظامه، ويحول الإيرانيون والروس دون سقوط النظام القاتل لشعبه. وتعرض المملكة هذه الأيام مشروعا على الأمم المتحدة لنصرة الشعب السوري في وجه جلاديه. ولدينا القضية الفلسطينية التي جمد الأميركيون والإسرائيليون العمل عليها وسط استشراء الاستيطان، كما أن المصالحة الفلسطينية تعرقلت بشدة بسبب الانقسامات داخل حماس، بين من يطمح للانتصار لصعود «الإخوان» في الثورات، ومَنْ يريد المصالحة باسم الثورات نفسها. وكما يمكن تطوير تعاون وتضامن بشأن فلسطين وبشأن سوريا، يمكن فعل الشيء نفسه بالنسبة للعراق والأزمة المتفاقمة فيه. ثم إن لدى العرب والمسلمين همّ التصدي لبقايا «القاعدة» والإرهاب والعنف والتشدد بالصومال واليمن والعراق ومالي. ولديهم هم الاضطهاد والتمييز ضد المسلمين في أنحاء من العالم بأفريقيا وآسيا وأوروبا.

يكرر خادم الحرمين الشريفين دائما قوله تعالى: «إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم». وقد كان الملك على نهج الإصلاح والمصالحة طوال عدة عقود، ولن يتخلى عن هذا النهج المبدئي مهما بلغت الصعوبات، من أجل قضايا الأمة الكبرى، وعلاقات المسلمين بعضهم ببعض وبالعالم.