ربيع براغ وخريف القاهرة

TT

إذا كانت الشعوب تثور من أجل حياة أفضل؛ فلماذا تستبدل في صناديق الاقتراع الديكتاتورية الساقطة بديكتاتورية أسوأ؟

الشعوب من تونس إلى سوريا شرقا واليمن جنوبا ثارت على ديكتاتورية شمولية كانت الانقلابات العسكرية (بدءا من نظام يوليو في مصر) استنسختها من الدولة البوليسية الأمنية التي ابتكرها جوزيف ستالين، بدعم حزب شمولي أوحد يرفض وجود الآخر، وترسانة قوانين تخنق المبادرات الفردية، وهو النظام الذي ثارت عليه وأسقطته شعوب شرق أوروبا قبل عقدين.

لم يمر على انهيار جدار برلين (1989) غمضة عين إلا وكانت شعوب أوروبا الشرقية لحقت بالعالم الحر في معظم المجالات من سوق تجارية حرة وتوقيع الميثاق العالمي لحقوق الإنسان وسيادة القانون والتحق معظمها بالاتحاد الأوروبي، وهو نادٍ أهم شروط عضويته الديمقراطية والتمثيل البرلماني واحترام حقوق الإنسان بلا انتقائية.

وحتى ساسة الأحزاب الشيوعية السابقة غسلوا من أدمغتهم لوثات الآيديولوجيا الشمولية وقبلوا الديمقراطية وحكم القانون جوهرا وليس مظهرا. وعلى الرغم من مرور خمس أو ست دورات انتخابية لم تكرر هذه الشعوب انتخاب أحزاب شموليات ما قبل سقوط جدار برلين.

والاستثناء هو روسيا التي تتقهقر فيها الديمقراطية بعد عودة فلاديمير بوتين مسؤول المخابرات السابق في العصر السوفياتي إلى الرئاسة، ونظامه هو الوحيد من أعضاء حلف وارسو السابق الذي يدعم ويحمي نظام مافيا عائلة الأسد البعثية في سوريا.

وهناك تشابه يلاحظه المؤرخ مع الحالة المصرية. فمثلا صوت الدوما (البرلمان الروسي) على قرار يدمغ أي منظمة غير حكومية أو ناد ثقافي أو معهد بحوث يتلقى تبرعات من الخارج بخاتم «العمالة الأجنبية»، والتعبير عند الروس يعني التجسس للمعسكر الإمبريالي المعادي في الضمير الشعبي الذي شكلته البروباغندا البلشفية أثناء فترة الحرب الباردة.

البلاشفة استولوا على ثورة 1917 التي كان وقودها الفلاحين والطلاب والمثقفين، وأسسوا ديكتاتورية نظام الحزب الواحد كنموذج شمولي قلدته ديكتاتوريات شرق أوروبا. وعندما أشرق فجر الديمقراطية دفنت جماهير شرق أوروبا النسخ التقليد من الديكتاتورية تحت أنقاض سور برلين، بينما يصر الروس على التمسك بالنسخة الأصلية.

في مصر انقلاب العسكر بزعامة اللواء محمد نجيب والبكباشي جمال عبد الناصر تطور عنه ديكتاتورية الحزب الواحد (الاتحاد الاشتراكي)، كان النموذج الذي قلدته البلدان العربية ببيروقراطية الدولة البوليسية وأجهزة سحق الفرد، كالمخابرات وأمن الدولة. واليوم تبدو مصر، مثل روسيا، تختار التمسك بالشمولية الديكتاتورية عبر صناديق الاقتراع، بينما لم تقع ليبيا مثلا في هذا الفخ.

شعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا رزحت تحت الديكتاتوريات الشمولية (ما بين 50 و60 سنة) للمدة نفسها التي خنقت فيها الديكتاتورية شرق أوروبا؛ فلماذا تجد الأخيرة (حتى بلدان كانت داخل الاتحاد السوفياتي نفسه مثل لاتفيا وليتوانيا وإستونيا) في غضون أشهر، اندمجت في الثقافة السياسية الاجتماعية الاقتصادية للعالم الحر، وتمارس شعوبها الحياة اليومية من تجارة وفنون وصحافة بمستوى ديمقراطيات أوروبا الغربية؟ بينما في نهاية منتصف العام الثاني من ثورة انبهر العالم بها إعجابا تستبدل مصر - بإرادة انتخابية - ديكتاتورية الحزب الوطني (الاتحاد الاشتراكي سابقا) بحزب آخر شمولي ديكتاتوريته أكثر سحقا للفرد وتطلعاته وإرادته؟

سيعترض البعض على وصف «الإخوان» بالشمولية بتأثير euphemism («الكناية») والتعود على تغليف المضمون السلبي بورق إيجابي، كتضمن مينيو الأربعاء «طبق الثلاثاء»، بينما مكانه الطبيعي صندوق الزبالة.

فتسربل الجماعة بالدين كان عباءة الاختفاء السحرية في الفولكلور الشعبي، فلا يرى الناخب سوى زبيبة الصلاة والمسبحة ولوحة «الله» المطعمة بالذهب في برواز ثمين معلق في المكتب الفخم. أما المضمون، فنفس أساليب الحزب الوطني لفرض السيطرة على أدوات تشكيل الرأي العام (تغيير قيادات الصحافة إلى محررين يلتزمون بفكر الجماعة وتكفير الصحافيين المستقلين «كسحرة فرعون» وتقليد بوتين في لصق تهمة العمالة بمن يتلقى تبرعات مصريين من الخارج).

وقد يعكس المظهر أنك أشد المسلمين تقيا ومواظبة على أداء الشعائر، وفي الوقت نفسه إذا فرضت على عباد الله الزي والمأكل وأسلوب الحياة وصادرت الكتب وشددت الرقابة على الفنون واتهمت المبدعين بالكفر، فلا شك أنك ديكتاتور تنتهك حقوق الإنسان.

جزء من الإجابة عن إفلات الوعي الجماعي لشعوب البلطيق من سيكولوجية الخضوع بينما سار المصريون في نومهم لاستبدال ديكتاتورية بأخرى تجده في كتاب مكيافيللي الشهير «الأمير». استراتيجية صاغها مكيافيللي في بداية القرن الـ 16 تساعد الحاكم على تقوية قبضته والقضاء على أي تهديد سياسي بتطوير أساليب تجعل الشعب يقع في غرام المستبد العادل، وتتطلع الجماهير إليه لتحقيق ما تقنعه بروباغندا النظام بأنه طموحها.

شعب تأصل في وجدانه مفهوم الحساب في العالم الآخر لسبعة آلاف عام، لا شك سينتخب المرشح «بتاع ربنا» فآلاف من أئمة الجماعة يحذرون مصلين أغلبيتهم أميون بأن من يصوت لمقلدي الأجانب الكفار سيذهب إلى جهنم وبئس المصير.

مطربات شابات للفرقة الغنائية «pussy riot» (أو مظاهرة القطط)، لا يمكن أخذها على محمل الجد، اعتقلهن نظام بوتين بتهمة تهديد الأمن القومي والسلم الاجتماعي، ويمثلن للمحاكمة بتهم ازدراء الدين وإهانة الكنيسة. البنات سجلن فيديو يسخر من النظام السياسي ولا يتعرض للدين، لكنه التقط في كاتدرائية عزفت فيها عشرات الفرق الموسيقية من قبل.

وبحسابات مكيافيللية يهب الرئيس المؤمن بوتين لحماية دار الرب من دلع البنات وحماية الدين من استهتار الفن (لاحظ البنات سخرن من النظام، وليس من الدين، الذي اختزله بوتين في المبنى وليس المضمون الروحي).

الجماهير تستمد معلوماتها من تلفزيون الدولة الذي يخيرها ببساطة بين طرفين: بنات حواء (التي أخرجت بتمردها آدم من الجنة - حسب التراث المسيحي) أو نظام الرئيس المؤمن الذي تباركه المؤسسة الدينية.

وببراءة، تختار الجماهير الديكتاتورية معتقدة أنها ترضي الله بهذا الاختيار.