الحذر مطلوب

TT

مع فرحة الناس المستحقة بنتائج الربيع العربي، ونشوتهم المفهومة بسبب تحررهم من أغلال العبودية والمذلة والمهانة، إلا أن هناك كابوسا مخيفا بدأ يفرض وجوده على الساحة السياسية بقوة، وهو يتسرب بهدوء ولكن بثقة في كل الأصعدة والميادين، مثله مثل السرطان، والكابوس المعني هو الخطاب الديني المتطرف.

فمشاهد بروز هذا الخطاب المتطرف لم يعد بالإمكان تجاهلها أبدا، سواء أكان ذلك في تونس أو مصر أو ليبيا أو اليمن وحتى سوريا.

الخطاب الإقصائي العدواني المسيء للأدب والظن، لا يترك «مساحة» للقبول ولا للحوار. حتما ومن المؤكد أن حراك الربيع العربي كان سببه أن الظلم والطغيان والفساد والاستبداد قد وصل إلى حدود هائلة لا يمكن السكوت عنها ولا القبول بها، والشعوب العربية بالتالي باتت تواقة للعدالة والأمن والحرية والكرامة والمساواة، ولن تقبل بأن يأتي أي كيان أو شخص يسلبها هذا كله مهما كان هدفه ومنطقه، وبغض النظر عن الهيئة التي يتغطى بها، سواء أكان باسم الدين أو باسم الاشتراكية أو باسم المال؛ فحتما ذلك سيكون مرفوضا وعودة خطيرة للوراء.

واليوم بدأت الأصوات المتطرفة ترتفع وتقصي المواطنين وتصنفهم، وتحجر على الحريات، وتفتري على العباد، وتضيق عليهم في الآراء. وهي اليوم ترغب في احتلال الإعلام وخطف التعليم والاستيلاء على القضاء.

تونس تعاني مر المعاناة من «اعتداءات عنيفة جدا» على المعاهد والجامعات من قبل جماعات أصولية متطرفة، وليست تونس وحدها في مواجهة التطرف الأهوج هذا، ولكن حتى ليبيا يتعرض فيها الإعلام، على سبيل المثال، لهجمة جماعات أصولية متطرفة «تتدخل» و«تهدد» بمنع وحجب، والإضرار بكل من يخالفها. حتى في مصر، ها هو منصب وزير الأوقاف الذي تقرر فجأة وفي اللحظات القليلة القصيرة - قبل القيام بأداء القسم أمام رئيس الجمهورية - تغيير الوزير المرشح والإتيان بشخصية محسوبة على الخط المتشدد، مهددة بالتالي المساجد والجوامع بتشديد خطابها وتصعيده أمام خطاب الأزهر الوسطي التسامحي العقلاني الأخلاقي الجميل، الذي قدم وثيقة سياسية تقدمية فاقت كل ما قدمته الأحزاب السياسية المتحدثة باسم الدين الإسلامي والمتناحرة فيما بينها، فأظهر تماما حجم الفجوة الأخلاقية والعلمية والثقافية والحضارية بين الخطابين في الساحة السياسية المصرية.

واليوم ها هي الثورة السورية التي بدأت سلمية وفي مواجهة إحدى أقذر الأنظمة القمعية الطائفية المتطرفة التي عرفها التاريخ الحديث، طائفية بغيضة متطرفة، وأيضا متجذرة ولكنها كانت تتغلف بغلاف علماني وعروبي وقومي كاذب وزائف، فضحتها الأيام وأسقطت عنها القناع.

ومع استخدام نظام بشار الأسد لأسلوب القتل والقمع والإبادة اضطرت الثورة السورية إلى تسليح نفسها، وبدأت أعداد كبيرة من أفراد الجيش النظامي في الانشقاق وكونوا الجيش السوري الحر، وانضم إليهم الثوار للدفاع عن مدنهم وأهلهم وأعراضهم، ولكن مؤخرا انضم للثوار الشرفاء مجموعات أصولية لها فكر مدمر ومتطرف، فالتطرف الطائفي لنظام الأسد كان حتما سيولد تطرفا طائفيا مضادا، وهذا ما حصل. ولكن مطلوب من الثورة السورية منع هذه الأصوات المتشددة والشاذة التي هي عازمة على تصنيف الناس وشق صدورهم والاطلاع على قلوبهم، وادعاء معرفة نواياهم مسبقا، وتصنيف أديانهم وعقائدهم وتصحيحها، وإقصائها وتكفيرها وزندقتها، حتى يتحول المجتمع إلى مجاميع متناحرة. الثورة السورية والربيع العربي إجمالا يجب أن يكون خاليا من الشوائب والشعوذة الدينية المتطرفة، وإلا تحول الربيع العربي إلى خريف ثم إلى شتاء قارس بارد وجاف لا حياة ممكنة فيه.

الحرية والكرامة لا تتناقضان مع الدين وقيمه ومبادئه، ولكن التنطع ليس من الدين أبدا، والتحذيرات منه معروفة على لسان سيد الخلق صلى الله عليه وسلم، ولن يكون للتشدد مكان لأنه سيكون شاذا ومغايرا للفطرة البشرية، ولذلك سيكون دوما في مواجهة الأكثرية. وكما قال سيد الخلق عليه صلاة الله وسلامه: «ما اجتمعت أمتي على ضلالة». والحذر مطلوب.

[email protected]