مسافة في عقل مرسي

TT

صباح الجمعة قبل الماضي، قام الدكتور محمد مرسي بزيارة إلى محافظة الفيوم، جنوب القاهرة، حيث أدى هناك صلاة الجمعة، وخطب في الناس بعد الصلاة، كما كان قد فعل من قبل في أعقاب صلوات مختلفة.

وقد وصفت الصحف الصادرة في اليوم التالي زيارته تلك بأنها «زيارة رد الجميل» للفيوم، بصفتها محافظة من محافظات الصعيد!

صحيح أنها ليست الزيارة الأولى له، بصفته رئيسا منتخبا، لمحافظات الجمهورية، وصحيح أنه في يوم الجمعة، الذي وافق أول أيام رمضان، كان قد أدى الصلاة في محافظة الشرقية، مسقط رأسه، إلا أن كثيرين اعتبروا زيارة الفيوم هي الأولى له خارج العاصمة، لأن زيارة الشرقية يمكن القفز فوقها، لا لشيء؛ إلا لأنها مسقط رأسه، ففيها نشأ وتعلم ثم عمل في جامعة الزقازيق، وبالتالي، فمن الطبيعي أن يزور أهله وعشيرته، في مناسبة من هذا النوع.

أما الفيوم، فالأمر يختلف تماما، لأنها أعلى محافظة حصل منها على أصوات في انتخابات رئاسة الجمهورية، وقد كان مجموع الأصوات التي حصدها فيها، في مواجهة المرشح المنافس الفريق أحمد شفيق، موضع دهشة كبيرة، لدى محللي النتائج، واتجاهاتها، وطبيعتها.

وقد كان التفسير الحاضر، عند قراءة مجمل أصواته فيها، أن أغلب أبناء الفيوم، من الفقراء، وهؤلاء هم الذين كان من السهل التأثير عليهم، من جانب رجال جماعة «الإخوان»، بالرشى الانتخابية المباشرة، المتمثلة في عبوات السكر، والأرز والزيت.. وغيرها.

وهو تفسير يبقى صحيحا، في جانب كبير منه، لأن الأمر تكرر في محافظات أخرى، وبنسب مختلفة، وكانت النسبة الأعلى من الأصوات لصالح المرشح محمد مرسي تأتي دائما من المحافظات التي ترتفع فيها نسبة الأمية، والفقر، والحاجة.

ولكن.. هذا ليس موضوعنا المباشر؛ إذ يبقى أن الموضوع الذي نريد أن نتوقف عنده، هو أن الرئيس محمد مرسي، عندما فكر في زيارة محافظات الجمهورية، باستثناء الشرقية، فإنه اختار الفيوم، بما يعني أنه انحاز منذ الوهلة الأولى، إلى الذين قالوا له: نعم.. وبأعلى صوت.

وكان الوضع بالنسبة له، سيكون أفضل لو أنه اختار أن يبدأ بمحافظة المنوفية - مثلا - وهي التي كانت قد أعطت أغلب أصواتها للمرشح المنافس شفيق، في الجولتين الأولى والثانية من الانتخابات.

وربما يذكر الذين تابعوا الانتخابات، في حينها، أن أصواتا ترددت في ذلك الوقت، عما إذا كان المرشح الفائز، الذي لم نكن نعرفه، سوف ينتقم من المحافظات التي لم تمنحه أصواتها.. وقد كان الذين يشيرون إلى هذا المعنى، يرددونه، وفي أذهانهم العقاب الذي كان قد حل بمحافظة بورسعيد، من جانب الرئيس السابق حسني مبارك، بعد أن تعرض ذات يوم لاعتداء على حياته أثناء زيارة لها.

اليوم.. يستدعي الرئيس مرسي، ما لحق ببورسعيد، إلى الأذهان، ربما دون أن يدري.. وإلا.. فتعالوا نتخيل أنه زار المنوفية، بدلا من الفيوم.. عندها كان سيُقال عن حق، إن الرئيس مرسي، يفعل ما يقوله، لأنه عندما أعلنوا فوزه، كان قد ألقى كلمة أكد فيها على أنه يشكر الذين قالوا له «لا» قبل الذين قالوا «نعم» وأنه رئيس لكل المصريين، وأنه لن يفرق بينهم على أساس الاتجاهات التصويتية، أثناء الانتخابات، وإنه.. وانه.. فإذا به، عند الجد، لا يفي بوعوده، وإذا به يتصرف بفكر جماعة «الإخوان»، وليس بفكر الجماعة الوطنية الأم، التي تضم الوطن كله، دون تفرقة على أي مستوى.

لقد كانت أولى الزيارات الخارجية للدكتور مرسي محل انتظار وترقب، وكان كثيرون يتساءلون بعد انتخابه بساعات، عن اسم البلد الذي سوف يكون صاحب أول زيارة منه، وعندما كان هذا البلد هو السعودية، راح البعض يتساءلون، ويحللون، ويقولون: لماذا السعودية على وجه التحديد؟! ولماذا لم تكن أي دولة غيرها، عربية، أو غير عربية، هي صاحبة أول زيارة، لأول رئيس لمصر بعد الثورة؟!

الشيء نفسه حدث مع الفيوم، ولم يستطع الذين تابعوا زيارته لها أن يمنعوا أنفسهم من التفتيش وراء الأبعاد، والمسببات، والمبررات، وغيرها.

وكانت المحصلة النهائية من وراء كل ما قيل في هذا الاتجاه أن الدكتور مرسي لا يريد للمرة الثالثة أن يفارق فكر جماعة «الإخوان»، وهو يتحرك بصفته رئيسا، وأن يثبت، من خلال ما يفعله، أنه استقال من «الجماعة» فعلا، لا قولا فقط.

لماذا؟! لأنه في المرة الأولى، كان قد اتخذ قرارا بإعادة مجلس الشعب (البرلمان) المنحل، بحكم من المحكمة الدستورية العليا، قبل أن يصبح رئيسا.. وقتها تساءل الجميع عن حق، عما إذا كان الدكتور مرسي، سوف يتخذ قرارا كهذا، لو أن الأغلبية النسبية في البرلمان المنحل، كانت لحزب آخر، غير حزب «الحرية والعدالة» الذراع السياسية لجماعة «الإخوان»؟! وبمعنى آخر، فإن المصلحة الحزبية المباشرة، والضيقة، كانت واضحة، ومتحققة في قراره بإعادة البرلمان، وكان المنتظر أن تكون المصلحة من وراء القرار وطنية خالصة، لا حزبية!

وفي المرة الثانية، كان قد اتخذ إجراء مماثلا، مع «الجمعية التأسيسية» التي تضع دستور البلد، وكان السؤال عند ذلك أيضا، على النحو التالي: هل كان الإجراء الذي اتخذه الدكتور مرسي لصالح «التأسيسية» سوف يكون له وجود، على يد الرئيس، لو كانت الأغلبية في تلك الجمعية، لغير صالح «الحرية والعدالة» بشكل خاص، والتيار الديني بشكل عام؟!

هنا، وللمرة الثانية، كان الذين يستشيرهم الرئيس يشيرون عليه بما يحقق مصلحة حزبية، لصالح حزبه، الذي كان رئيسا له قبل أن يصبح رئيسا للبلد، ولا يزال عضوا فيه، إلى الآن.

ثم كنا على موعد، للمرة الثالثة، مع زيارة الفيوم، ففيها، تبين أن الرئيس، دون أن يدري، يميل إلى حيث تميل جماعة «الإخوان»، في حين أنه استقال منها، بعد ساعة من إعلان فوزه، وصار، من الناحية النظرية على الأقل، منتسبا إلى الجماعة الوطنية كلها، لا إلى جماعة محددة داخل الوطن.

ولا بد أن نعترف، حتى نكون موضوعيين، بأن ما نطالب به الرئيس مرسي، صعب للغاية، لأن الانفصال عن الجماعة الإخوانية، بالنسبة له، ولغيره من أعضائها، ليس مسألة سهلة كما قد نتصور، وليس قرارا على ورق، يتخذه هو أو غيره في لحظة، وينتهي الأمر.. فالحكاية لها علاقة بتكوين نفسي وعقلي خضع له الرجل، منذ انتسب إلى «الإخوان» نهاية السبعينات، ومن شأن تكوين من هذا النوع، أن يكون عميقا، وأن يكون مستقرا في داخل صاحبه، ولذلك، فإن الدكتور مرسي في حاجة إلى وقت، حتى يمكن أن يتخلص من علاقة كهذه، بينه وبين «الجماعة»، وفي حاجة أيضا إلى أن يوطن نفسه على أنه لم يعد من الجماعة، ولم تعد هي منه، وأن نجاحه في مهمته، رئيسا، متوقف على قدرته على خلع رداء «الإخوان»، وارتداء ثوب الوطن الأوسع، والأشمل، والأكبر بطبيعته.

لا يريد المرء أن يحصي على الرئيس مرسي خطواته، ولكن المشكلة أن مصر كلها تمارس هذا الإحصاء منذ أن فاز الدكتور مرسي بمنصب الرئيس.. بل لا نبالغ إذا قلنا إن هناك كثيرين خارج مصر يمارسون الإحصاء ذاته، ويكادون يعدون عليه أنفاسه، وليس فقط خطواته، وهو، لهذا السبب، مدعو إلى أن يبرهن، في كل خطوة، على أنه محمد مرسي المصري، لا محمد مرسي «الإخواني»، وهو بالطبع يستطيع أن يقول ويؤكد على أنه يتصرف بوحي من «مصريته» لا «إخوانيته».. ولكن العبرة سوف تظل دائما بما يفعل على الأرض، وليس بما يقول في الإعلام، ولا بد أن تشير أي مراجعة سريعة لخطواته الثلاث؛ مع البرلمان، و«التأسيسية»، والفيوم، إلى أن المسافة بين ما يقوله، في هذا الشأن، وما يفعله، لا تزال واسعة، وأن عليه أن يردمها.