شتان بين من تعيّش بنفسه ومن تعيش بقلبه!

TT

ما معنى حياتنا؟ وكيف تستقيم حياتنا روحيا؟ وكيف ندرك ونفسر معنى الحياة؟

دعوني أقدم لكم نهجين مختلفين كليا للحياة، كما يقال: بينهما بون شاسع.

قبل عدة أيام ذهبت لصلاة المغرب في مسجد ريجنت بارك. كان بعض الأفراد يوزعون طعام الإفطار، المكون من الماء والحليب والتمر والتفاح الأحمر والأخضر والموز، على المصلين. حصلنا على أكياسنا الصغيرة، ودخلنا إلى المسجد وجلسنا نتلو القرآن الكريم في انتظار الأذان.

اقترب شخص مني ومن آخرين وقال لي: «السلام عليكم، هذا التمر من المدينة. السلام عليكم يا أخي، هل تريد بعض الكرز؟».

كان الكرز جميلا وعالي الجودة. كنت أرى أن هذا هو الإسلام الصحيح، وتذكرت قول النبي - صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في تراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر».

أعطاني صديقي السوداني التمر، وبنبرة لطيفة قال لي إن هذا التمر جلب من المدينة، وهو ما خلف فيّ إحساسا وكأنني مقيم بها، في الجنة. بعد الصلاة أردت أن أطبع قبلة على جبينه وأقول له شكرا لك يا أخي إن تمرك هذا من الجنة. خلال الصلاة كنت أفكر بشأن هذا الجزء من الجنة المتمثل في الحياة الروحية، وأداء العبادة في المسجد خلال رمضان، وذلك الجزء من الجحيم في سوريا. فلم يغب عن مخيلتي الفيلم الذي نشر على الإنترنت والذي يظهر بعض السوريين - عناصر في الجيش - والذين تم تجريدهم من ملابسهم ثم قتلوا رميا بالرصاص، مع سماع صيحات «الله أكبر» في الخلفية. على الجانب الآخر، تذكرت قصف المدن والقرى بالطائرات والمروحيات، ونزوح ما يقرب من مليون شخص عن منازلهم، وقتل أكثر من عشرين ألفا، واعتقل وجرح وعذب الآلاف ودمرت المدن.. هل هذا هو معنى الحياة؟! من الذي يستطيع أن يداوي هذه الجراح الغائرة في قلب الشعب السوري؟! هل هذه الطريقة التي يفترض أن تتصرف بها الحكومة؟! هل هذا هو نهج الديمقراطية والحرية؟

قلت لنفسي: أنت تصلي، أين أنت؟! لكن سلسلة الصور، وتدفق الدم، والجراح وصوت بكاء الأطفال لم تغادر مخيلتي.

كانت الصورتان مثل مرآتين تتسابقان إلى رأسي وكنت أرى انعكاسا لا نهائيا من الصور. مثل لوحتين كبيرتين في متحف، إحداهما للجنة والأخرى للنار، كنموذج لنوعين من الحياة. ويقول شمس التبريزي، العالم الصوفي الكبير وأستاذ جلال الدين الرومي: «شتان بين من تعيش بنفسه ومن تعيش بقلبه ومن تعيش بربه»!

ما يجري في سوريا هو النفس، التي يصفها القرآن الكريم بقوله: «إن النفس لأمارة بالسوء». وما يجري في المسجد نموذج للنفس المتمنية «وادخلي جنتي».

يوضح المثلان اللذان ذكرا آنفا الصنفين اللذين عليهما المسلمون في العالم الآن. في زمن الجاهلية الأولى لم يقتلوا بعضهم خلال الأشهر الحرم، لذا يثور تساؤل: ما الذي حدث للمسلمين بعد أكثر من 14 قرنا في هذه الجاهلية الجديدة، في الألفية الثالثة؟! ففي الجاهلية الأولى كانت تسود بينهم بعض القيم المهمة، فقد كان للجوار حقه عند أهل الجاهلية، وكان للوفاء بالعهد والذمة قدره، وكانت الرسل لا تقتل، وكان للحرم حرمته وتعظيمه، وكان للحياء نصيب.

لماذا تحول شهر الله إلى مثل هذا؟! ارتبط وصف الجاهلية في القرآن باستخدام أربع إشارات:

ظن الجاهلية (آل عمران: 154)

أفحكم الجاهلية (المائدة: 50)

تبرج الجاهلية (الأحزاب: 33)

حمية الجاهلية (الفتح: 26)

والحقيقة أننا عندما نقارن الجاهلية الأولى بجاهلية الألفية الثالثة، نجد أنهم برآء مما نحن فيه اليوم. انظروا إلى سوريا والعراق وأفغانستان، وكم من الأشخاص قتلوا خلال النصف الأول من رمضان؟! كانوا يقتلون الأفراد ويصيحون «الله أكبر». كانوا يقتلون أبناء شعبهم ويقولون إن هذا هو الجيش الوطني الذي يدافع عن حقوق البلاد. كيف يمكن لهؤلاء الأشخاص التعايش مع الآخرين في المستقبل؟! ما هو مستقبل مثل هذه الأمم الجريحة؟! ففي لبنان، على الرغم من مرور وقت طويل على الحرب الأهلية، لا تزال تنكأ الجراح في جسد الدولة.

من الذي يستطيع أن يداوي الجراح العميقة في العراق وأفغانستان وباكستان واليمن وليبيا، ومؤخرا في سوريا؟

قتل إنسان يشطر حياة القاتل إلى جزأين، قبل القتل وبعد القتل. قبل ارتكاب الجريمة، يكون بشرا وبعدها يكون قاتلا. سيظل القاتل بطبيعة القاتل يحاول تبرير جريمة قتل الأفراد، وستزعم الحكومة أن مجموعات المعارضة ليست سوى متآمرين. على الجانب الآخر تقول المعارضة إن الحكومة ومؤيديها هم الخونة. تتشابه كلمات وأفعال كلا الجانبين، فكلا الجانبين يمارس القتل، وكلاهما يحظى بتأييد من الدول الأجنبية.

قبل فترة وجيزة، ألقيت محاضرة في جامعة فيرجينيا، انتقدت فيها مؤيدي الحركة الخضراء في الولايات المتحدة، وقلت لهم إن أحمدي نجاد يصف مؤيدي الحركة الخضراء بالأوساخ. تجمع مؤيدو الحركة الخضراء أمام الفندق الذي يقيم فيه أحمدي نجاد وصاحوا «اخرج أيها القمامة»! قلت لطلابي: ما هو الفارق بينكم وبين أحمدي نجاد؟! إن كلماتكم وشعاراتكم أسوأ من عباراته. كيف يمكن أن نصل إلى الديمقراطية ونحن نسير على الطريق الخاطئ؟! هل تعتقدون أن الغاية تبرر الوسيلة؟! هذا هو الفارق الرئيسي بين الأخلاق والسياسة.. فلن يدخل أحد الجنة بفعل أهل النار. فعندما يتحدث القرآن عن العدالة يقول إن الطريقة التي نتصرف بها مع العدو هي المعيار الرئيسي لتحقيق العدالة، لا سلوكنا مع أصدقائنا.